09 نوفمبر 2025
تسجيلجاء انتخاب دونالد ترامب يوم 8 نوفمبر الماضي على رأس الإدارة الأمريكية مؤذنا بانعطاف عديد الدول الغربية نحو اليمين لا أقول المتطرف بل المنفلت أو الصفيق أو المدلس للتاريخ أو المغرر بالجماهير أو الكذاب على الناس. و منذ عقود قال أكبر علمائهم عالم الأنتروبولوجيا (كلود ليفي ستراوس) بأن العنصرية لا يعتنقها سوى الجهلة محدودي المعرفة فيتوهمون أنهم ينتمون إلى حضارة أرقى بينما ليس هناك حضارة أرقى من حضارة و كل ما في الأمر فإن الأمم تهتدي إلى أجوبة مختلفة على الأسئلة الأبدية المطروحة على الإنسان أينما كان كالموت و الدين و طلاسم الكون. و هذا الانعطاف الخطير لليمين العنصري الذي يشهده الغرب بجناحيه الأمريكي و الأوروبي لا يبشر بخير للسلام العالمي و لا يخدم مصالح هذا الغرب نفسه. لماذا إذن انعطفت بعض النخب الطامحة للحكم نحو هذه المسالك الوعرة التي تؤذن بتدمير الجسور الباقية بين الأمم و تشييد جدران العار الجديدة بين الحضارات؟. و أنا بصراحة فوجئت و صدمت من تنامي الخطاب الشعبوي الأوروبي كما يمثله رئيس الحكومة المجري (فكتور أوربان) و أيضا حين سمعت المرشح اليميني الفرنسي للرئاسة (فرنسوا فيون) يقول في اجتماع عام بمناصريه: لا يحق لكم أن تشعروا بأنكم مذنبون أو متهمون حين استعمرتم شعوبا أخرى لأنكم فقط تقاسمتم ثقافتكم مع تلك الشعوب في المشرق العربي وشمال إفريقيا و آسيا و إفريقيا !! نعم هكذا وصف السيد فيون مغامرة الاستعمار (مجرد تقاسم الثقافة...الله يكثر خيرهم) أي في رأيه لم يكن الاستعمار سوى تفضل و مكرمة من الثقافة الفرنسية التي سمحت لأممنا المستضعفة بأن تتقاسمها مع أصحابها الأصليين حتى تصبح هذه الأمم المستعبدة متمدنة متقدمة (مثقفة) . لكن ليس هذا رأينا نحن أبناء الشعوب التي عانت ويلات الاستعمار و لا ما ترسخ في ذاكرة أجيالنا عن مرحلة الاستعمار! فالمغرب الإسلامي بدأ يرزح تحت نير الاحتلال منذ 1830 وبعد الاحتلال فرضت فرنسا على الجزائريين قانون الأهالي.كان من نتائج الهجمة الاستعمارية الشرسة التي تعرضت لها المؤسسات التعليمية والوقفية والدينية، نضوب ميزانية التعليم وغلق المدارس وانقطاع التلاميذ عن الدراسة وهجرة العلماء. وبذلك فإن رسالة فرنسا في الجزائر كانت هي التجهيل وليس التعليم، مما يمكن الفرنسيين من جعل الجزائر، أسهل انقيادا وأكثر قابلية لتقبل مبادئ الحضارة الغربية.ولا تختلف السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر عبر مختلف مراحل الوجود الفرنسي عسكريا كان أو مدنيا، لأنها كانت أهدافا واحدة وإن اختلفت التسميات ثم بدأت ممارسات القتل الجماعي مثلما فعل الجنرال (بيليسييه) حين أمر بإحراق قبيلة بني رياح كاملة بكل أفرادها الألف حين هربوا للمغارات الجبلية فأمر هذا الجنرال أن تسد كل منافذ المغارات و توقد النيران و كان يقول لجنوده حسب رواية المؤرخ الفرنسي (أوجستان برنار) : "اقتلوهم مخنوقين بالدخان مثل الثعالب و صغار الثعالب في جحورها " و تبعت تلك المذابح فظائع أخرى والتي بلغت مستوى الإبادة كما وقع في مذبحة سطيف يوم 8 مايو 1945 حيث بلغ عدد الشهداء 45000 و مجزرة نهر السين في باريس يوم 17 اكتوبر 1961 حيث قتل حوالي ألف جزائري بالرصاص أو غرقا في النهر ثم تواصلت حرب الإبادة العرقية سنوات الجمر أثناء الحرب التحريرية باعتراف الجنرالات الفرنسيين بممارسة التعذيب و الاغتصاب والقتل (كتبهم منشورة أكثرها صراحة كتاب الجنرال (أسوراس) الذي اعترف بقتل المقاومين تحت التعذيب عام 1957 أثناء حرب التحرير) . ما يزال جرح الاستعمار نازفا و لعل آخر ممارسات السلطة الفرنسية تجريب القنبلة الذرية الفرنسية في صحراء الجزائر واعتبار المواطنين المسلمين القاطنين في ضواحي الانفجارات الذرية فئران تجارب. نفس السيناريوهات الرهيبة تكررت في تونس و المغرب و بلدان جنوب الصحراء الإفريقية وفي فيتنام الذي انتصر على الاستعمار الفرنسي في موقعة (ديان بيان فو) في 7 مايو 1954 وانتصر على الاستعمار الأمريكي بتحرير (سايجون) في 30 أبريل 1975 وهي عاصمة جمهورية الفيتنام الحالية باسم (هو شي منه فيل) على اسم الزعيم البطل في الحربين ضد الأمبراطوريتين الفرنسية و الأمريكية.انعطاف النخب السياسية نحو اليمين في أوروبا و أمريكا يطمس التاريخ و يمسح الذاكرة من أجل مكاسب سياسية انتخابية لأننا لو أخذنا فقط مثال المساهمة المغاربية في تحرير فرنسا ذاتها من الاحتلال النازي الألماني لأدرك الفرنسيون الشباب بأن أجداد جيرانهم المغاربيين ساهموا في الحرب الأخيرة ضد المحتلين الهتلريين لبلادهم حينما كلف الجنرال ديجول زعيم المقاومة الشعبية الفرنسية رفيقه الجنرال (لوكلارك) بتجهيز جيش من شباب التوانسة و الجزائريين و المغاربة و السينغال في مايو 1944 و الإبحار من السواحل المغاربية نحو مدينة (تولون) والشروع في تحرير جنوب فرنسا إلى بلوغ العاصمة باريس (وهو ما يعرف باسم كتائب لوكلارك) كما قاتل العرب المجندون في الجيش الفرنسي منذ 1914 و 1939 و مات مئات الآلاف منهم في ساحات وغى مستعمرهم و في حروب دموية لا ناقة لهم فيها و لا جمل دون أي اعتراف بفضلهم كما مات الآلاف من جيل آبائنا وهم عمال بناء في صقيع فرنسا ليشيدوا طرقاتها السريعة و يحفروا أنفاق المترو...منذ الهجرات الشرعية الأولى في الخمسينات والستينات. و بالطبع لم يخرج المستعمرون من بلادنا إلا بعد تنصيب وكلائهم الذين التزموا بمواصلة غسل عقول شعوبهم و تغريبها ومحو هوياتها.في دول أوروبية عديدة يصعِّد اليمين المتطرف كنتيجة نتفهمها لعمليات إرهابية ندينها ونستنكرها رفعت شعارات دينية و لكن ضحاياها كانوا أيضا من المواطنين مسلمي أوروبا المسالمين .