06 نوفمبر 2025
تسجيلفشلت إدارة باراك أوباما في المهمة التي أخذتها على عاتقها بتسهيل استئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، واعترفت بالفشل لكنها موَّهته بأنها تجري مراجعة لخياراتها بالنسبة إلى الشرق الأوسط، وقال ناطق الخارجية: "نغير تكتيكاتنا ولا نغير استراتيجيتنا"، وكأن العالم لم يختبر هذه الاستراتيجية على مدى العقدين الأخيرين ولم يتلمس إخفاقاتها المتتالية، ويكفي أن "عملية السلام" لم تتوصل إلى بداية سلام بل مكنت إسرائيل من الدفاع عن احتلالها وحمايته مستندة تحديدا إلى التأييد الأمريكي الثابت لسياساتها وانتهاكاتها للقانون الدولي سواء في الاستيطان أو في حصار غزة. هذا الفشل أثار استياء وارتباكا في العالم العربي، مع تساؤلات عن البدائل، فيما بدت مظاهر الارتياح واضحة لدى إسرائيل التي لا تنضب بدائلها، لكن إدارة أوباما جريا على عادة الإدارات الأمريكية، لا تحمل إسرائيل مسؤولية فشلها، وإذا اضطرت فإنها توزع المسؤولية بين الطرفين لئلا تواجه مطالبات بمحاسبة من يعرقل السلام، كان الرئيس الأسبق بيل كلينتون مثلا قد استخلص من مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 أن الجانب الفلسطيني هو الذي أفشل المسعى الذي خاضه شخصيا، وقيل يومذاك إنه أراد إنقاذ حليفه ايهود باراك من تفاعلات أزمة داخلية كانت بدأت تتفاقم في انتظار عودته من المفاوضات، وطبعا، لم ينقذه بل أعطى معارضيه ذرائع إضافية للإجهاز على حكومته، وبالتالي فرضت انتخابات مبكرة، لكن كلينتون تسبب باندلاع انتفاضة فلسطينية وبانفجار الوحشية الإسرائيلية، أكثر من ذلك ودع كلينتون البيت الأبيض بوصية إلى خلفه جورج دبليو بوش نصحه فيها بعدم التعامل مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وهو ما ترجمه بوش بعدم إعطاء أولوية للملف الشرق أوسطي في بداية عهده. قد تكون واشنطن أجرت تلك "المراجعة" فعلا، لكن عودة المبعوث الخاص جورج ميتشل تعني للمراقبين أن الإدارة لم تنتج أفكارا جديدة ولم تبلور أي مبادرة يمكن أن تشكل الانطلاقة الجديدة للمفاوضات، كما سمتها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، كان ميتشل اشتغل طوال ما يقرب من عامين للتوصل أولاً إلى تجميد الاستيطان، ثم لإجراء مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين، ثم لترتيب إطلاق المفاوضات المباشرة ودائما على أساس أن الاستيطان مجمد، في مختلف المراحل كانت الجهة التي تسهل أو تعرقل هي إسرائيل، وفي يوليو الماضي طلب بنيامين نتنياهو الانتقال من غير المباشر إلى المباشر، واستطاع إقناع أوباما بوجهة نظره بل اتفق معه على ضرورة الضغط على الفلسطينيين والعرب كي يوافقوا على هذه الخطوة. لم تتبرع إدارة أوباما بأي تفسير سياسي منطقي لاتفاق مع نتنياهو، وقد ربط آنذاك بحتمية استقطاب اللوبي اليهودي قبيل انتخابات التجديد النصفي لمجلس الكونجرس، إلا أن الجمهوريين هم الذين فازوا فيها، ولم يخفِ الإسرائيليون اغتباطهم بهزيمة أوباما وحزبه الديمقراطي، وقيل إن أوباما اعتبر أن إلحاح نتنياهو للانتقال إلى مفاوضات مباشرة يعني انه مستعد فعلا لمفاوضات جدية وهادفة، لذلك وافق على فكرته معتقدا أن هناك "فرصة" يجب ألا تفوت، قيل أيضا ان اوباما يريد بأي شكل أن يتسرع الطرفان في التفاوض لأنه في هذه الحال فقط تستطيع واشنطن أن تلعب دورا وأن تمارس ضغطا على إسرائيل، لكن "الفرصة" تبدو الآن وقد بددت وضاعت، تماماً كما خطط لها الإسرائيليون الذين دخلوا عمليا على استراتيجية أوباما وعملوا على تخريبها من داخلها، وقد تمكنوا من ذلك بفضل أشخاص في الطاقم الأمريكي المشرف على ملف المفاوضات. الآن، وفقاً لـ"التكتيكات" الجديدة، لن يعود الأمريكيون إلى القول بوجوب تجميد الاستيطان، بل أصبح واضحا أنهم سيرمون هذه الورقة مع علمهم بأن الفلسطينيين والعرب متمسكون بها، وسيكون على هؤلاء أن يفهموا ماذا يعني "تخلي الولايات المتحدة عن محاولة إقناع الإسرائيليين بتجميد الاستيطان"، إذ لابد أن يعني أن هذه الورقة لن تعود في التداول، أي أن واشنطن قررت ترك الإسرائيليين يبنون في أراض سطوا عليها لتعود فتطالب الفلسطينيين بالتفاوض من دون شروط، وفي ذلك دليل جديد على أن الموقف الأمريكي من الاستيطان لا يقوم على اعتبارات القانون الدولي وإنما على تكتيكات التفاوض بل في ذلك خصوصاً رضوخ أمريكي لمطلب كان نتنياهو وضعه باكراً على الطاولة قائلاً إن الفلسطينيين تمسكوا بوقف الاستيطان لأن أوباما هو من بادر إلى جعله خطوة أولى لابد منها قبل بدء التفاوض، فإذا تخلى عنها – كما يفعل الآن مضطرا –سيتخلى الفلسطينيون عنها مضطرين لأن خياراتهم البديلة عديمة الفاعلية. وحتى لو وجدت هذه الخيارات فإن واشنطن أبلغت العرب مسبقاً أنها لن تتردد باستخدام "الفيتو"، فهي ترفض إعادة الملف الفلسطيني إلى مجلس الأمن لأنه يرمي إلى رفع اليد الأمريكية عن هذا الملف، كما أنها لن تؤيد قراراً دولياً بإنشاء دولة فلسطينية ما دام أنه سيصدر من خارج التفاوض، وهكذا فإن أمريكا تبقى إلى جانب إسرائيل في مختلف الأحوال، سواء أفشلتها أو أنجحتها، من هنا فإن الارتباك العربي إزاء الفشل الأمريكي لن يساهم في إنتاج أي بدائل جدية يمكن أن تزعج واشنطن أكثر مما تزعج إسرائيل. الأسوأ من الفشل الأمريكي هو منهج إضاعة الوقت الذي فرضته اسرائيل لتمضية ما تبقى من ولاية أوباما من دون مفاوضات، والأخطر أنها ماضية في استغلال الجمود بسلسلة إجراءات من شأنها أن تفسد أي اتفاق سلام مقبل، سواء بتكريس يهودية الدولة أو بالتضييق على فلسطينيي "48" أو بتهويد القدس وتهويد الأماكن المقدسة الإسلامية، فهذا أيضا "استيطان" من نوع آخر ولا تبدو الولايات المتحدة مدركة لمخاطره.