08 نوفمبر 2025

تسجيل

تركيا الجديدة (1): حزب العدالة والتنمية.. 10 سنوات من إدارة الصراع بذكاء

13 مايو 2013

بدعوة من رئاسة مجلس الوزراء بالجمهورية التركية، شاركت "الشرق" ضمن 10 شخصيات إعلامية ومؤسسات بحثية، في زيارة استغرقت أسبوعاً إلى كل من أنقرا واسطنبول، التقت خلالها العديد من المسؤولين وصنَّاع القرار والجهاز التنفيذي الحكومي، إضافة إلى مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام.هدفت الزيارة إلى اجراء نقاشات وحوارات حيال العلاقات التركية العربية، خاصة بعد مرور 10 سنوات على حكم حزب العدالة والتنمية، الذي وصل إلى الحكم في 2002، واستطاع أن يدير دفة الحكم بصورة أذهلت الداخل والخارج، وقدمت نموذجاً جديداً، وباتت تجربة حكومة " العدالة والتنمية " مثالاً في استنهاض قوى المجتمع لتحقيق التنمية الشاملة، وهو ما حققه الحزب في مسيرته خلال السنوات الـ " 10 " الماضية."الشرق" تستعرض في سلسلة تقارير الزيارة التي قامت بها إلى تركيا، والتقت خلالها بالنخب السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والاعلامية..يمثل الثالث من نوفمبر 2002 مفصلاً تاريخياً في مسيرة تركيا الجديدة، ففي هذا التاريخ أعلن عن فوز حزب جديد على الساحة لم يمض على تشكيله نحو عام فقط، وهو ما مثل ضربة قوية للقوى التقليدية الموجودة في الساحة التركية، خاصة تلك التي يدعمها الجيش، الذي طالما كانت له اليد الطولى في الساحة السياسية طوال العقود الماضية، وكان يحسم أي صراع لصالحه مباشرة، أو لصالح قوى محسوبة عليه، وتسير تحت مظلته.هذا الحزب الوليد الذي قفز إلى الساحة متقدما على كل الأحزاب التقليدية، هو حزب " العدالة والتنمية " الداخل الى معترك الحياة السياسية بكل قوة بعد ان حقق فوزا في الأصوات الانتخابية وصلت الى 34.5 %، وهو ما يمثل ثلثي البرلمان، مما يمكنه تشكيل الحكومة بدون عوائق قد يتعرض لها.للعلم فان حزب العدالة والتنمية اسس في اغسطس 2001، بعد ان تم اغلاق حزب الفضيلة، الذي هو امتداد لحزب الرفاه "ذو التوجه الإسلامي".بعد ان تم اغلاق حزب الفضيلة، انقسم اعضاؤه الى فريقين متوازيين لتأسيس حزبين منفصلين، فكان ان تحول 51 عضوا من الفضيلة الى تأسيس حزب العدالة والتنمية، فيما تحول عدد مماثل الى تأسيس حزب السعادة، وذلك بعد يومين من اغلاق حزب الفضيلة الذي تم في اغسطس من عام 2001.كان الرهان قويا على ألا يكمل هذا الحزب ذو التوجه الاسلامي وذو الجذور الاسلامية كذلك، فهو منبثق من حزبين تم اغلاقهما، وان كان حزب العدالة لا يعرف نفسه بأنه ذو توجه اسلامي، ويصر على انه حزب محافظ وديمقراطي مسيرته في الحكم، وان يتعرض الى انتكاسة وفشل ذريع، الا انه كان على النقيض من ذلك تماما، فقد استطاع هذا الحزب وبفضل وعي وادراك قيادته ان يتخطى كل العقبات التي وضعت امامه، خاصة في العامين الاولين من الحكم، حيث تعرضت حكومة حزب العدالة والتنمية الى هجوم كاسح من جميع الاطراف، وفي مقدمتها وسائل الاعلام التي كانت تسعى الى تأليب الرأي العام التركي، وتجييش قوى المجتمع ضد الحزب، ومحاولة افشال جهوده في مختلف المجالات، فكانت شوارع تركيا بمدنها تكتظ يوميا بالمتظاهرين، وينقل عن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قوله " انه ظل لنحو عامين كلما فتح نافذة مكتبه رأى أعدادا من المتظاهرين الساخطين على حزبه، والمعارض له "، إلا أن الوضع قد اختلف اليوم، وانعكست الآية تماما، حيث زادت شعبيته بشكل مذهل.تركيا المديونةولكن كيف هي اليوم - تركيا- بعد أكثر من 10 سنوات من حزب العدالة والتنمية؟.من المهم الاشارة الى الأوضاع الاقتصادية والسياسية والتعليمية.. في تركيا قبل مجيء حزب العدالة الى الحكم، حتى يتضح المشهد في حجم التغير الذي شهدته تركيا.. تركيا الجديدة.عندما استلمت حكومة حزب العدالة الحكم، كانت الحكومة التي سبقتها قد أنهت اجراءات الاقتراض من صندوق النقد الدولي مبلغ 26 مليار دولار، اي ان حكومة حزب العدالة ورثت قرضا لصندوق النقد الدولي يقدر بـ 26 مليار دولار، وهو ملزم التسديد، وكانت موازنة الدولة يدفع منها 85 % لتسديد فوائد الديون، ولم يتجاوز الاحتياطي التركي في عام 2002 وهو العام الذي تولت فيه حكومة العدالة الحكم 27 مليار دولار، ولم يكن هناك نمو اقتصادي، وكان متوسط دخل الفرد لا يتجاوز 2700 دولار سنويا، والتضخم وصل الى 35 %، فيما الناتج القومي لم يتجاوز 200 مليار دولار، وعدد الجامعات في كل تركيا 54 جامعة، اضافة الى سيطرة الجيش على مفاصل الدولة، وسطوة القضاء وتلاقيه مع العسكر في إدارة البلد، والانقلاب الدائم على الحكومات...تركيا الجديدةهذه صورة مبسطة عن وضع تركيا في عام 2002 عندما استلمت حكومة حزب العدالة والتنمية الحكم، فكيف هو الحال اليوم بعد 10 سنوات من هذه الحكومة؟قبل الحديث عن الارقام، كنت اظن ان تأييد حكومة حزب العدالة يأتي من الاسلاميين أو من ذوي التوجهات الاسلامية، ولكن بعد حوارات ومشاهدات عديدة، ونقاشات مع رجل الشارع، وفي المؤسسات الاعلامية والمراكز البحثية، وجولات ميدانية في عدد من المرافق، اتضح لي ان الذين يؤيدون سياسات الحزب من كل الاتجاهات، ومن جميع الاطياف.جلست في حوار مع معدة برامج في إحدى القنوات التركية في اسطنبول، وهي ليست متحجبة، وتدخن السيجار، ومنفتحة، سألتها عن الأوضاع في تركيا كيف تراها، فعبرت عن سعادتها لما وصلت لها البلاد، وكنت أظن انها سوف تنتقد حزب العدالة، إلا أنها كانت أكثر حماسا في الدفاع عنه وعن سياساته، فقلت لها لكنه حزب ذو توجه اسلامي وانت لست متحجبة، فقالت: هو حزب ديمقراطي، وأحدث نقلة نوعية في البلد، لا يعنيني توجه الحزب..، سألتها ان كانت سوف تصوت له في الانتخابات القادمة، فردت وهي مبتسمة: بكل تأكيد.لم يختلف حماسة هذه الفتاة التركية عن سائق الحافلة التي كنا نتنقل بها، عندما سألته عما اذا كان مرتاحا لوضعه الاقتصادي فأجاب بنعم، فقلت له كيف، فقال: في 2002 لم يكن الكثير من الشعب التركي يستطيع شراء سيارة، اليوم الغالبية لديها القدرة على ذلك، وقلت له ومن اخترت في الانتخابات السابقة فقال: حزب العدالة، فقلت له ممازحا بالتأكيد سوف تعطي صوتك لحزب آخر في الانتخابات القادمة لربما يكون التغيير أفضل من حزب العدالة، نظر اليَّ وقال: كلا، سوف أمنح صوتي لحزب العدالة، لانه عمل لنا الكثير.هذا السائق ليس ملتحيا، وتلك الفتاة ليست متحجبة، إلا أنهما كانا من اكثر المؤيدين لحزب يشار اليه وان كان في الغرف المغلقة بأنه اسلامي، بل وفي العالم العربي يؤكد الجميع ذلك.تركيا العدالة بالأرقامدعونا نلقي نظرة بلغة الارقام على النقلة التي احدثها حزب العدالة والتنمية في المجتمع التركي، والتجربة التي تستحق الدراسة والتوقف عندها، خاصة في الدول العربية، ودول الربيع العربي على وجه الخصوص.كما أشرت ورث هذا الحزب 26 مليار دولار دينا لصندوق النقد الدولي، فكيف هو الحال اليوم؟استطاعت حكومة الحزب أن تسدد كل هذا المبلغ خلال 10 سنوات، وكان آخر قسط تم تسديده قبل أيام، وليس هذا فحسب بل أقدمت تركيا على اقراض صندوق النقد الدولي، فقد تحولت هذه الدولة من دولة مديونة الى دولة دائنة.متوسط النمو طوال السنوات العشر كان 6.6 %، ودخل الفرد وصل إلى 12 ألف دولار بعد أن كان 2700 دولار، أما الاحتياطي فقد قفز الى 135 مليار دولار، والناتج القومي وصل الى 900 مليار دولار، والتصدير قفز من 32 مليارا في 2002 إلى 154 مليار دولار، والبطالة أقل من 9 %، وعدد الجامعات في تركيا وصل إلى 170 جامعة.بالمناسبة بعد أن حقق حزب العدالة في الانتخابات الأولى فوزا بنسبة 34.5 % عام 2002، تواصل صعود نجم الحزب، ففاز في الانتخابات الثانية في 2007 بنسبة 47 %، وواصل صعوده ليحظى بأصوات 50.4 % في آخر انتخابات برلمانية عام 2011، فيما تشير استطلاعات الرأي انه في حال اجراء انتخابات حاليا فان الحزب سوف يحقق نسبة لا تقل عن 52 % من الأصوات.هذه الثقة المتزايدة من الأتراك في حزب العدالة لم تأت اعتباطا، إنما بعد أن قدم الحزب وكوادره نموذجا في الحكم والادارة، ورفع سقف الحريات أمام الجميع، وفتح أبواب الديمقراطية الحقيقية دون أن يمثل ذلك تعارضا مع قيم المحافظة التي ينتهجها الحزب، والتي يؤكد انها جزء من تراث وقيم المجتمع، وليس بينها وبين الديمقراطية اي تضارب، اضافة الى بناء المجتمع ومؤسساته المختلفة، وتطوير الاقتصاد بصورة لافتة، مما جعل تركيا تحتل المركز السادس عشر عالميا، ولديها عزم واصرار على أن تكون العاشرة في عام 2020، فيما اقتصادها كان واحدا من أكثر الاقتصادات على المستوى الأوروبي قوة ومتانة، ولم يتأثر بالازمة المالية العالمية التي ضربت العالم كثيرا، بل واصل نموه، وان انخفض في عام 2008، إلا أنه لم تتوقف مسيرة النمو.ويؤكد نائب رئيس الوزراء بولنت ارينج ان حزب العدالة والتنمية لديه من الكوادر ما يؤهله لتشكيل " 10" حكومات متوازية في آن واحد، وبنفس الكفاءة والدرجة العالية من الاداء.هذا التصريح والاعلان لمسؤول بهذا المستوى يلامس ارض الواقع، فخلال هذه الدعوة التقينا أعداداً متفاوتة في المناصب والاعمار كذلك من اعضاء حزب العدالة، كان الغالبية منهم في اعمار الثلاثينيات وبداية الاربعينيات، يتولون مناصب قيادية وفي الجهاز التنفيذي، وما يميز الجميع ان لديهم طموحا عاليا، ورؤية واضحة، ومشروع بعث أمة "تركية " حضارية متسامحة ومتعايشة مع الجميع، تستفيد من ماضيها في بناء مستقبلها.والأمر المهم ان الجيل الثاني من اعضاء الحزب متطابق فكريا مع الجيل القيادي الحالي، وتجد "النغمة " واحدة بين جيل "المخضرمين " وجيل الشباب، الذي يتولى العديد من المناصب القيادية وفي الجهاز الاداري، وهي قضية جدا مهمة، لا تجد انفلاتا او خروجا عن الفكر والنهج و" النص " ان صح التعبير.أردوغان وغولوللعلم لم يكن رجب طيب اردوغان الرئيس الاول لحكومة حزب العدالة والتنمية في 2002، انما كان الرئيس الحالي للجمهورية التركية عبدالله غول هو اول رئيس لحكومة حزب العدالة، أما رجب طيب أردوغان الذي يمثل ظاهرة، وذو شخصية فذة فقد منع من تولي رئاسة الحكومة لوجود حكم قضائي مسبق عليه، إلا أن هذا الحكم ألغي بعد أن فاز عن مدينة " سعرت " بنسبة 85 %، فاضطر القضاء للرضوخ الى إرادة الشعب، وكانت لديهم قناعة ان حكم حزب العدالة لن يطول كثيرا، وان الفشل سيكون مصيره.تولى أردوغان رئاسة الحكومة في 16 مارس 2003، بعد ان تنازل عنها رفيقه وصاحبه عبدالله غول، الذي تولى حقيبة الخارجية، سرعان ما دفع به لرئاسة الجمهورية في الانتخابات الرئاسية التالية.وهذه هي الدورة الثانية لاردوغان في رئاسة الحكومة، وسوف تنتهي في 2015، وبالمناسبة فقد تعرض اردوغان خلال السنوات الـ " 10 " الى " 6 " محاولات اغتيال، بطرق مختلفة، إلا أنه نجا منها، ولم يعلن عنها.8.5  مليون أعضاء الحزبحسب بعض الأرقام فان أعضاء حزب العدالة يصلون الى 8.5 مليون عضو، من بينهم 3.5 مليون امرأة.يبلغ أعضاء حزب العدالة في البرلمان الحالي 326 عضوا من 550 عضوا هم اجمالي اعضاء البرلمان التركي، مما يجعلهم يمثلون الاغلبية المريحة.وبالمناسبة بالرغم من مضي اكثر من 10 سنوات على حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا، فإن الحزب لم يدفع بأي امرأة محجبة من عضواته الى عضوية البرلمان، على الرغم من المئات من عضوات الحزب محجبات، وفضل ان يدفع بغير المحجبات من عضواته الى البرلمان، ويعتزم ان يدفع بنساء محجبات مع اعضائه في الانتخابات البرلمانية القادمة في 2015.حكمة بالغة الأهمية في إدارة الصراع مع القوى المتحكمة في المجتمع، وفي نفس الوقت كسب ثقة الشعب، فقد استطاع حزب العدالة ان يقوم بـ " ثورة هادئة "، ويقلم " اظافر " الجيش والقضاء بالديمقراطية والقانون بكل هدوء، مستمدا قوته وصلاحيته من الشعب، عبر اللجوء اليه في كثير من الفترات، عبر صناديق الاقتراع والاستفتاء العام.10 سنوات هي مدة زمنية قليلة في عمر الدول وان كانت هي طويلة في عمر الافراد، إلا أن حزب العدالة انجز فيها ما عجزت عنه الاحزاب الحاكمة مجتمعة في تاريخ تركيا، على الرغم منه انه جاء الى الحكم في مرحلة صعبة، وظروف معقدة، الا انه استطاع ان يقود دفة "المركب " الى شاطئ الامان، بعد أن نجح داخليا، وأعاد لتركيا دورها الخارجي، إقليمياً ودولياً.