13 نوفمبر 2025

تسجيل

فاعليات الكراهية

12 نوفمبر 2014

"كانت الساعة قد قاربت الحادية عشرة في دائرة السجلات، فأخذ الموظفون يجرّون المقاعد من مكاتبهم ويصفونها في وسط القاعة المواجهة لشاشة الرصد استعدادا لبدء فعاليات دقيقتي الكراهية""وكما جرت العادة في إطار برنامج الكراهية ما إن يظهر على الشاشة وجه إيمانويل جولدشتاين، عدو الشعب، حتى تتعالى صيحات الاستهجان من كافة أنحاء القاعة. فجولدشتاين هذا هو ذلك الخائن المرتد، الذي تآمر على الدولة، وتورط في نشاطات معادية للثورة، فحكم عليه بالموت، ولكنه تمكن من الهرب في ظروف غامضة واختفى عن الأنظار". "وكان برنامج الكراهية يتنوع من يوم إلى يوم، ولكن لم يكن هناك برنامج إلا وجولدشتاين هو محوره الرئيس، إذ كان أول من خان الثورة، وأول من سعى لتشويه الصورة المشرقة للحزب. فكل الجرائم في حق الحزب، وكل الأعمال التخريبية والهرطقة والانحراف عن مبادئ الحزب كانت نتيجة مباشرة لتعاليمه. وهو مازال يعيش في مكان ما يدبر المكائد، تحت رعاية أسياده الأجانب، الذين يقدمون له التمويل اللازم". "كان هجوم جولدشتاين على مبادئ الحزب ضارياً ومليئا بالتحامل والمبالغات، إلا أنه كان مع ذلك معقولاً، وكان مما يثير الفزع أن هنالك أناسا بسطاء وأقل إدراكا لحقائق الأمور قد ينخدعون بها، إذ كان يستنكر ديكتاتورية الحزب، ويطالب بحرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية عقد الاجتماعات، وحرية الفكر"."وفي أثناء خطبه، وللحيلولة دون انخداع البعض بأكاذيبه المستترة وراء حديثه المنمق، كانت تظهر على الشاشة وراء رأس جولدشتاين صفوف متراصة من الرجال ذوي الوجوه الكالحة، وكتائب متلاحقة من جنود العدو، ما إن تختفي واحدة إلا وتظهر أخرى أكثر وحشية وهمجية. فتتعالى الصرخات الغاضبة المنفجرة من الحضور في القاعة. وسرعان ما يتصاعد غضبهم حتى يصير سعارا، ويروح الناس يثبون إلى الأعلى من مقاعدهم، وهم يصيحون، حتى يطغى صوتهم على الصوت الصادر عن الشاشة أمامهم"."وأفظع ما في فعاليات الكراهية أن المرء ليس مجبرا على تمثيل دور ما، إذ من المستحيل تجنب الانخراط فيها، ففي غضون ثلاثين ثانية فقط من هذه الفعاليات تتملك حالة من الرغبة في القتل والانتقام والتعذيب وتهشيم الرؤوس الحضور، وتسري في أوصالهم، وكأنها تيار كهربائي يدفع بالمرء رغما عنه للصراخ والصياح كمن أصابه مس من الجنون. وكان الغضب الذي يشعر به المرء آنذاك انفعالاً طائشاً، وغير محدد الوجهة ومن الممكن تحويله من وجهة إلى أخرى مثل لسان لهب متصاعد"."وتبلغ الكراهية ذروتها عندما يتحول وجه جولدشتاين إلى وجه مسخ، ثم لا يلبث أن يتلاشى ليحل محله وجه جندي من جنود الأعداء، يندفع ممسكا في يده ببندقية آلية تهدر، حتى يبدو وكأنه سيثب من الشاشة، حتى إن بعض المشاهدين في المقاعد الأمامية يجفلون للوراء، لكن وفي هذه اللحظة، يتنفس الجميع الصعداء، إذ تتلاشى هذه الصورة، وتحل محلها صورة الأخ الكبير، بشعر رأسه الأسود وشاربه الكث ورزانته الغامضة وقوته الفياضة، ويكون وجهه من الضخامة بحيث يملأ الشاشة كلها كحامي الحمى الجسور الذي لا يقهر"."لم يكن ثمة من يسمع ما يقوله الأخ الكبير، فقد كانت كلماته لا يمكن تمييزها، بيد أنها كانت تعيد الثقة إلى النفوس بمجرد أن يتلفظ بها. ثم يتلاشى وجه الأخ الكبير، وتظهر على الشاشة شعارات الحزب الثلاثة بأحرف كبيرة بارزة: الحرية هي العبودية، الحرب هي السلام، الجهل هو القوة"."وفي تلك اللحظة ينخرط جميع الحاضرين في ترديد إيقاعي لترنيمة "الكبير... الكبير"، ويرددونها ببطء ووضوح، ويتوقفون بين المرة والأخرى، بحيث يكون صوتهم ثقيلاً ومفعما بشيء من البربرية، ومن خلفيته ينبعث صوت وقع أقدام عارية أو دقات طبول بعيدة، تحدث حالة تشبه التنويم المغناطيسي أو غياب الوعي". "الغريب أن جولدشتاين هذا وبرغم أن مقولاته تتعرض في كل يوم وفي كل لحظة للدحض والنقد على صفحات الصحف والكتب وشاشة الرصد ومنابر الحزب، كما تُقدم للرأي العام باعتبارها هراء محض، رغم كل هذا فإن تأثيره لا يضعف، فهناك دائما أغرار ينخدعون به، فلا يكاد يمر يوم إلا وتلقى "شرطة الفكر" القبض على جواسيس ومخربين يعملون تحت إمرته. حتى أصبح جولدشتاين رغم العزلة المفروضة عليه وحالة العجز التي يعيشها، يبدو مثل ساحر شرير، قادر بقوة صوته فقط أن يقوض بنيان الإنجازات التي يحققها الأخ الأكبر".من رواية جورج أوريل "1984"