07 نوفمبر 2025
تسجيلأمانة الدعوة تقتضي البلاغ بالقلب واللسان، لقوله تعالى: "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية: 21-22)، وأمانة الدولة تقتضي التغيير بالقلب واللسان واليد، كما قال تعالى: "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور"، (الحج:41)، أمانة الدعوة توجب تقريب كل الناس إلى رب الناس، لقوله تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا" (الأعراف: من الآية 158)، وقال صلى الله عليه وسلم: "خلوا بيني وبين الناس"، وأمانة الدولة تقتضي أن تقول للتقي الورع الذي لا يقدر على الإدارة: كن رجل دعوة لا دولة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه في الحديث الذي رواه مسلم: "يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها - أي الإمارة - أمانة، وإنها يوم القيامة، خزي وندامة"، وأبو ذر كان أنجح الناس دعويا فبعد إسلامه بقليل هدى الله على يديه قبيلتين كبيرتين هما: بنو غفار وبنو أسلم حتى قال صلى الله عليه وسلم له: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر" (سنن الترمذي، حديث حسن)، ومع التحول من مرحلة الدعوة بمكة إلى الدولة بالمدينة لم يولَّ أبو ذر على اثنين، أما عمرو بن العاص الذي حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم زمنا قبل إسلامه، بل أوفدته قريش إلى الحبشة ليفسد النجاشي على المهاجرين المضطهدين من المسلمين، لكنه لما أسلم بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال له: "ألا أبعثك وأحذيك؟" -أي أمنحك راتبا كبيرا ليغطي مصاريف وجاهتك- فقال عمرو: "ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: "يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح" (الصحيح المسند، حديث صحيح)، وقد قاد الأمور بكثير من الحكمة وندرة من الأخطاء، حتى أنه كان أول من اقترح مبادرا على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن نفتح مصر لنقضي على آخر قلاع الرومان ونحصن الفتح الإسلامي للقدس وفلسطين والشام، فأجازه سيدنا عمر وفتحها، وأكرم عمرو المقوقس الأكبر عظيم القبط، وأحسن إلى النصارى المقهورين من نصارى الرومان، فجاء الإسلام بردًا وسلامًا على كل أهل مصر قاطبة على يد رجل الدولة عمرو بن العاص، وهو الذي وجه عقبة بن نافع لفتح ليبيا تأمينا للجبهة الغربية لمصر ففتحها. رجل الدعوة " يطبطب " على كل المدعوين أملا أن يردهم إلى طريق الصالحين، ويأخذ بأيديهم إلى النور المبين، والصراط المستقيم، لكن رجل الدولة يفعل غير هذا فيستبعد غير الأمين على المال، والجبان عن مسؤولية حماية الثغور، وجهاد الأعداء، ويستبعد في وظائف الأمن من يفشي أسراره، ويكثر كلامه، والضعيف الذي يرتعش من كل صيحة، ويستبعد من الإدارة من يجيد وصف المشكلة دون التفكير في حلّها حتى قيل: القائد إذا عرضتَ عليه مشكلة بادر إلى اقتراح حلولها، والفاشل إذا وُضع له ألف حلٍ وحل يُخرج لك ألف مشكلة ومعوق في كل حل، ومنهج رجل الدولة إذا اتفق على إنجاز شيء أن يتابع ويدقق، فإذا وجد غير ما اتفق عليه قام بالتذكير أولا، والعتاب ثانيا، والحسم أخيرا كما قص علينا القرآن من قصة سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر لما سأله في المرة الأولى ذكّره بأرق لغة: "قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا" (الكهف:72)، فلما سأل في الثانية علت النبرة من التذكير إلى العتاب، باستعمال كلمة "لك" في قوله تعالى: "قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا" (الكهف: 75)، فلما سأل الثالثة حسم وفصل في الأمر فقال: "قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا" (الكهف:78)، وها هو ذو القرنين يدخل على أهل مغرب الشمس بقوله: "قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا " (الكهف: 87-88)، فجمع بين لين رجل الدعوة في قول الحسنى للمؤمنين الصالحين، ورجل الدولة أنه سيعذب باستعمال القضاء كل من يظلم غيره، ولما اشتكى القوم من يأجوج ومأجوج، لم يقل لهم بلغة رجل الدعوة: "صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" (فقه السيرة، حسن صحيح)، بل تحدث بلغة رجل الدولة بقوله: "فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" (الكهف: من الآية 95)، فلما فرغ من دوره كرجل دولة عاد رجلَ دعوة بقوله عن السد: "قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" (الكهف:98)، فعرف متى يكون رجل دعوة، ومتى يكون رجل دولة، وإذا كانت أمانة الدعوة تلزم أن نستوعب كل الناس مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، وعندما يخطئون نغفر ونتسامح ونتغافر، لكن رجل الدولة الفذ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جاءه قبطي من مصر يشكو اعتداء ابن رئيس مصر آنئذ وهو عمرو بن العاص، أرسل عمر للرئيس وابنه وبدأ في محاكمتهما محاكمة عادلة ثم قال: "قم واضرب ابن الأكرمين"، فقام القبطي فضرب ابن الأكرمين، وهمَّ عمر بضرب عمرو لأن ابنه ضرب القبطي معتمدا على سلطان أبيه. أمانة الدعوة تقتضي اختيار أعمق الناس فكرا في فهم الرسالة، وأكثرهم معرفة بأحوال وتحديات مجتمعه، ثم أرقهم في طرائق الدعوة إلى الله، لكن أمانة اختيار رجل الدولة تقتضي استبعاد الضعاف ممن لا يجيدون استكشاف عناصر القوة والضعف والفرص والتهديدات، ثم اكتشاف رجال الدولة معه، من الأمناء الأقوياء في حمل الرسالة، ثم يحدد أولويات الزمان والمكان، ثم يضع خطة طموحة بشرط ألا تكون خيالا، ثم يراعي المتابعة الميدانية والمكتبية معا ليسلم من "تزويق" التقارير، ثم يستمر في مشوار التحسين والتطوير سعيا للأحسن دائما. هناك رجال دعوة لا يصلحون رجال دولة، ورجال دولة لا يعرفون شيئا عن الدعوة، وقد قال أخي وصديقي د. أيمن الغايش: "هناك من لا يصلح لهذا ولا ذاك لكنه يبقى من أصحاب الرغبة أن يكون رجل دعوة أو دولة". يجب أن نصدق الله في اكتشاف أنفسنا: هل نحن رجال دعوة أم دولة أو هما معا؟، وابدأ في حزم وعزم أن تختار الموقع الذي تجيده دعوة أو دولة، أو هما معا لتكون أهلا لقيادة الدولة برشد وقوة وأمانة، وإلا فيكفي أن تكون من أصحاب الرغبة، فنية المرء خير من عمله.