06 نوفمبر 2025
تسجيليدل معظم الكتابات الغربية لاسيما الأمريكية في الذكرى العاشرة لهجمات 11 سبتمبر 2001، إلى رغبة في الخروج من "عصر 11 سبتمبر"، لماذا تحديداً؟ للعودة إلى رؤية قضايا العالم وتفكيرها بعيدا عن التشنج والنهج الأمني، فالعقد الماضي انطوى على أكثر من كارثة، إحداها كانت عالمية، وهي انهيار الأسواق المالية وغرق الاقتصادات في أزمة لن تخرج منها قريبا، عدا الكوارث المحلية المتنقلة من أعاصير وفيضانات وزلازل، فضلا عن المجاعة أخيرا في الصومال حيث يجد نحو أربعة ملايين إنسان أنفسهم معرضين أو مهددين فعليا بخطر الموت جوعا. ككل سنة في مثل هذا الموسم نسمع تقديرات تراوح بين "نهاية" تنظيم القاعدة واستمرار التهديد الإرهابي، وتكون النتيجة ألا شيء مؤكدا، وليس معروفا كيف أن من يسمون "خبراء" يمكن أن يتوصلوا إلى توقعات متناقضة إلى هذا الحد، ما يعني إما أنهم يتحدثون عن تمنياتهم أو عما لا يعرفون، كالعادة، أيضا تنشط استطلاعات الرأي لسبر أغوار العالم الإسلامي وحساسياته إزاء ذاك التنظيم، وصولاً إلى استنتاجات جديدة بشأن معادلة الحب-الكره بين المسلمين والغرب، وكأن المسألة تتعلق هنا بـ"القاعدة" أي لم تكن قبل ظهورها ولن تستمر بعد أفولها أو زوالها. العامل الحاسم في هذا المجال هو السياسات الغربية، بالأحرى الأمريكية، خصوصاً أن معظم الاستطلاعات كان واضحا في إظهار الضرر البالغ الذي احتلته إدارة جورج دبليو بوش عندما أعطت ارييل شارون وحكومته ترخيصاً بقتل القضية الفلسطينية كجزء من المساهمة الإسرائيلية في الحرب على الإرهاب، وقد استكمل نشر الضرر وتعميقه خلال إدارة باراك أوباما، ليبلغ الآن حد توجيه التهديدات الصريحة بمعاقبة السلطة الفلسطينية إن هي لجأت إلى الأمم المتحدة لإبقاء قضية شعبها على قيد الحياة. على سبيل المراجعة كان لابد من تذكير "مؤسسة الحكم" في واشنطن بأن ردود فعلها بعد الهجمات الإرهابية ما لبثت أن أغرقتها في أزمات وتحديات وخسارات استراتيجية لم تتحسب لها، يكفي أن العالم كان ملتفا حولها مؤازرا ومستعدا لمشاركتها، وكيف انه صعب بعدئذ الحفاظ على وحدة الموقف الدولي هذه بسبب الخيارات المتهورة لزمرة "المحافظين الجدد"، وفيما كانت الحرب على أفغانستان "مفهومة" بدت الحرب على العراق إخفاقاً مدهشا بتداعياتها الظاهرة وتلك التي ظهرت لاحقا سواء في منطقتي الخليج والشرق الأوسط، أو في أنحاء أخرى من العالم تعتبر الولايات المتحدة أن لديها فيها مصالح أو مواطن نفوذ لابد منها لبقائها الدولة العظمى الوحيدة، لكن الواقع أثبت بوضوح محدودية ما يمكن حتى لقوة عظمى لأن تنجزه، وخطورة الانحدار الجيوسياسي الذي قد يتأتى من اندفاع واثق وغير مدروس لاستخدام هذه القوة. لا شك ان الهيستريا الثأرية التي انتابت الولايات المتحدة غداة 11 سبتمبر، رتبت عليها الكثير من الأخطاء ستجعل عودتها الى مهماتها الاعتيادية صعبة وأحيانا مستحيلة على افتراض استعادتها المصداقية التي تتطلبها مهمات من النوع الإنساني أو تلك التي تطمح إلى صنع السلام أو حتى مجرد القيام بوساطات ناجحة وفاعلة، ولعل الإهانات التي يبدو متفقا دوليا على أن بنيامين نتنياهو وجهها لأوباما هي من هذا النوع، إذ ان اسرائيل تعرف عن خلفيات الحرب على الإرهاب وأهدافها الحقيقة (ربما غير المدونة) بل تعرف عن دواخل ما يسمى "التحقيق في أحداث 11 سبتمبر"، ما يسمح لها بازدراء رئيس لا تجربة له في أروقة "مؤسسة الحكم" الأمريكية وجاء إلى البيت الأبيض ليديرها أو يتعامل معها برزمة أفكار أكاديمية لا قيمة لها في التصريف اليومي للسياسة القذرة التقليدية. وفي أي حال كان ذلك "التحقيق" ولا يزال ناقصا، ومشتبها به، لأنه ارتكز على فكرة جامدة وغبية، مفادها ان احداث 11 سبتمبر ليست سوى ثمرة نشر مطلق نما وترعرع في نفوس مجموعة الـ"19" التي نفذت العمليات والقيادة التي خططت لها من بعد، يستتبع ذلك أن المستهدف كان الديمقراطية والحرية وطريقة العيش في أمريكا والغرب. وهو ما صب فعلا في سياق "صراع الحضارات"، بين التزمت والانفتاح، ما عني استطرادا أن هذا التزمت جاء من تقاليد العيش التي تبناها الإسلام، وبالتالي فإن الفكرة الواضحة المبسطة التي انزرعت في أذهان العامة أن "العدو"، الحقيقي هو هذا الدين، لكن لزوميات العمل الدبلوماسي حتمت على إدارة بوش الجمهورية القول إن امريكا ليست في حرب مع الإسلام، إلا أن خروج الجمهوريين من الحكم انطق ألسنة العديد من قادتهم الذين باتوا يتحدثون عن ديانة كما لو أنهم يتحدثون عن جماعة إجرامية لابد من تصفيتها لوضع حد لشرورها، وهكذا، باختصار فإن التحقيق أو على الأقل الجانب المعلن منه، لم يشأ أن يعترف بوجود أسس أو أسباب أمريكية دعت هؤلاء الإرهابيين المؤدلجين إلى استهداف أمريكا ورموز هيمنتها. بعد عشرة أعوام على الحدث لا تزال غالبية واسعة من الأمريكيين جامدة عند فكرة واحدة لم تفارقها وهي أن المشكلة ليست في حصول تلك المأساة وإنما في حصولها في أمريكا وضد أمريكيين، ويعزى ذلك إلى ثقافة تفوق تشربتها أجيال تلو أجيال، وجعلتها تعتقد أن المآسي تضرب الآخرين وحدهم، وهي الثقافة نفسها التي تحول دون تحسس المجتمع الأمريكي لآلام الآخرين بل تلقنه التجاهل واللامبالاة، يتساوى في ذلك أن تكون أو لا تكون أمريكا نفسها مصدر تلك الآلام، ثم ان هذه الثقافة هي التي أضفت كل التبريرات والتبريكات على حروب الثأر التي تلت أحداث 11 سبتمبر يقال إنه لو لم تذهب إدارة بوش الى هذا الثأر لكانت فقدت هيبتها، ولكانت اضطرت إلى ممارسة اكثر قمعا وشدة، في الداخل خصوصا ضد المواطنين والمقيمين من أحوال عربية وإسلامية، مع ذلك، لا يزال الرد على الهجمات يقسم الرأي العام الأمريكي، إذ يعتبر البعض مثلا ان عمليات محددة الأهداف مثل قتل اسامة بن لادن كانت بالتأكيد اكثر جدوى من تدمير أفغانستان واحتلالها، وبالتالي كان يمكن اعتماد هذا النمط من الردود بدل تحريك الآلة الحربية في مغامرات تعرف بدايتها وتظل نهايتها مجهولة، وتعرف نتائجها المباشرة أما مفاعيلها بعيدة المدى فقد تكون كارثية. يعتبر الأمريكيون عموما انه اذا كان هناك أمر واحد مؤكد فهو ان الولايات المتحدة استطاعت ان تؤمن اراضيها لمنع حصول أي هجمات ارهابية مماثلة، لكن كلفة هذا الأمان عالية، ثم انه لم يبدد الشكوك تماما، اصبح هناك ما يقرب من الف ومائتي هيئة حكومية جديدة تعنى بالأمن وأكثر من الفي شركة تعمل على برامج مرتبطة بمكافحة الارهاب والامن الداخلي والاستخبارات. أما كلفة حربي العراق وافغانستان فتقارب الاربعة تريليونات دولار، أي ما يناهز العجز الذي تعاني منه الميزانية العامة. صحيح أن ما بعد 11 سبتمبر أدى إلى خفض المكانة الاستراتيجية لأمريكا، إلا أنه ساهم أيضا في خفض مرتبتها الائتمانية وكثيرون يعتبرون انه بسبب فضائح سجن أبوغريب ومعسكر الاعتقال في غوانتانامو خفض كذلك سلطتها المعنوية، كلها عوامل تضافرت للتقليل حتى من أهمية الحصول على أسامة بن لادن جثة.