09 نوفمبر 2025
تسجيل"عالم ما بعد أمريكا" عبارة جذبت انتباه الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" مما دعاه لاصطحاب الكتاب الْمُعَنْوَن بهذه العبارة المثيرة للانتباه والدهشة معاً، وقد التقَطَتْ كاميرات الإعلام صورة له وهو يحمل هذا الكتاب؛ فهل يعني هذا أن زعماء أمريكا يقرؤون المستقبل بهذه الطريقة؟ هذا ما أعتقد أن مؤلف الكتاب قد نفاه عندما نقل عن أندري جروف مؤسس شركة إنتل قوله: "تواجه أمريكا خطر السير على خطى أوروبا باتجاه الانهيار، وأسوأ ما في الأمر أن لا أحد يعلم بذلك، إنهم جميعا يعيشون حالة من الإنكار، يُرَبِّتُ بعضهم على ظهور بعض، بينما تتجه "التايتانيك" نحو جبل الجليد وبأقصى سرعتها!. انهيار الهيمنة أما عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ، صاحب التنبؤات الصادقة، الذي يبني توقعاته على قواعد لها علاقة بالقوانين العامة التي تحكم الأمم والمجتمعات، والذي سبق أن تنبأ بأحداث كبرى ووقعت كما تنبأ، كاندلاع الثورة الإيرانية وانهيار الاتحاد السوفيتي وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد تنبأ بانهيار الهيمنة الأمريكية قبل عام 2025م بعد غزو أمريكا للعراق، ثم عاد ليؤكد توقعه ويقرب زمانه لدى تولي ترامب للرئاسة، ويضع له غاية هي عام 2020م!. ولم يقف "فريد زكريا" مؤلف الكتاب المذكور - وهو أيضا مؤلف الكتاب الواسع الانتشار في العالم: "مستقبل الحرية الديمقراطية الضيقة الآفاق في الداخل والخارج" - لم يقف عند حد التنبؤ المبني على الخبرة والاستقراء، وإنما أفصح بلغة الأرقام المدعومة بشهادات أهل الخبرة، فينقل عن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "جيمس بيكر" تصريحا أدلى به عام 1991م يشير إلى هذا المستقبل المنتظر، ويختمه بقوله: "إن العالم يتجه من الغضب إلى اللامبالاة، من العداء لأمريكا إلى ما بعد أمريكا". وبلغة الأرقام وقراءة الواقع الماثل يستطرد في البيان: "فالصين والهند تتحولان إلى لاعبين كبيرين في منطقتهما وما وراءهما، وروسيا انتهت من مرحلة التأقلم التي تلت نهاية الاتحاد السوفيتي، وهي تزداد قوة وعدائية أيضا، وبالرغم من أن اليابان ليست من بين القوى الصاعدة إلا أنها الآن أكثر استعدادا للإفصاح عن آرائها ومواقفها تجاه جيرانها، وأوروبا تتصرف في المسائل التجارية والاقتصادية بقوة وتصميم هائلين، وصوت البرازيل والمكسيك يسمع بقوة في قضايا أمريكا اللاتينية، أما دول جنوب أفريقيا فقد اتخذت لنفسها موقع زعيمة القارة الأفريقية؛ جميع هذه القوى تأخذ لنفسها مساحة أكبر في الساحة الدولية من المساحة التي كانت كل واحدة منها تشغلها في الماضي. شعب لم يتعلم وعلى الصعيد الداخلي فإن الشعب الأمريكي لم يتعلم - كسائر شعوب تلك القوى الأخرى الناهضة - كيف يدير الإنفاق العائلي؛ فكانت أزمة الديون العقارية الشهيرة "فمنذ بداية الثمانينيات والأمريكيون يستهلكون أكثر مما ينتجون، ويعوضون الفرق بالاقتراض، وهذا كان يحدث في جميع مستويات المجتمع، حيث ارتفع الدين العائلي من 680 مليار دولار سنة 1974م إلى 14 تريليون دولار في 2008م وهذا التضاعف وقع في السنوات السبع الأخيرة فقط، وتمتلك العائلة المتوسطة اليوم 13 بطاقة ائتمانية وتستدين بمبلغ 120000 دولار في صورة رهن عقاري. والذين عايشوا المجتمع الأمريكي ورأوه من داخله لم تبهرهم المظاهر؛ لذلك نقلوا صورة عنه لا تشعر بأنه شعب يعطي لحضارة أمته عمقا خلقيا وديموغرافيا وإنثربيولوجيا يطيل عمرها، "فالحيوية المادية عند الأمريكي مقدسة، والضعف أياً كانت أسبابه جريمة لا يغتفرها شيء، ولا تستحق عطفا ولا عونا، وحكاية المبادئ والحقوق خرافة في ضمير الأمريكي لا يتذوق لها طعماً، كن قويا ولك كل شيء، أو كن ضعيفا فلا يسعفك مبدأ ولا يكون لك مكان في مجال الحياة الفسيح، أما الذي يموت فيرتكب بالطبع جريمة الموت؛ ويفقد كل حق له في الاهتمام والاحترام؛ فقد مات؟!. أما العنصرية التي فجرت الأحداث الأخيرة؛ فلولا شيوعها وتجذرها وتفشي آثارها الوخيمة لما جاءت ردة الفعل لمقتل "جورج فلويد" على هذا النحو الذي تجاوز حدود الولايات المتحدة إلى شعوب أوروبا، فالعنصرية في المجتمع الأمريكي هي عنصرية العرق الأنجلوسكسوني، وهو عرق ربما أشد عنصرية تجاه الأجناس والعرقيات والألوان الأخرى من الجنس الآري واللاتيني، وإن كان أقل طيشا ونزقا منهما، لذلك فهي عنصرية تمارس بالأسلوب الإنجليزي البطيء العميق، فالسود يعانون مضايقات كثيرة ومستمرة ودائمة، ليس فقط في مؤسسات الشرطة والأمن الداخلي، وإنما في جميع المؤسسات الحكومية والشعبية، وما يعانيه السود تعانيه الألوان الأخرى المنحدرة من جنسيات وعرقيات كثيرة. لم يعد وجهه فيه قطرة ماء وعلى مستوى حقوق الإنسان بوجه عام فإنه لم يعد لأمريكا وجه فيه قطرة من ماء أو مسحة من حياء؛ لتواجه به سيل الانتقادات الجارف الذي طوى ما سطره العظيم توماس جفرسون وإخوانه من الآباء المؤسسين تحت زمجرته وهديره، "فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن هناك 75 حربًا وتدخلاً عسكريًا ودعمًا لانقلاب عسكري، وكلها لا علاقة لها بالدفاع عن النفس وإنما للتوسع والسيطرة، فمن فيتنام إلى نيكاراغوا والسلفادور إلى بنما وتشيلي وغيرها من دول أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى، إلى دعم الكيان الصهيوني، إلى أفغانستان والعراق، وفي كل هذه الفتن التي أشعلتها والحروب التي سعرتها لم يكن للإنسانية مكان ولا متسع؛ وكما قال نعوم تشومسكي: "لم يكن عمل القوات التي حركناها في نيكاراغوا، أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو غواتيمالا، لم يكن عملهم هو القتل العادي، ولكن كان بصفة أساسية قتل القسوة والتعذيب السادي - تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وتقشير بشراتهن وقطع رؤوس الناس وتعليقها على الخوازيق ورطم الأطفال بالحوائط - الفكرة هي سحق الوطنية التي تدعو للاستقلال والتي قد تجلب الديمقراطية الحقيقية. وكان بلوغ المنتهى في قمع الشعوب والأمم متمثلا في إرضاء الهاجس الأمنى المجنون لدى الـ CIA بممارسة ما أطلق عليه: "الابتزاز الوقائي" من أجل: "إقامة نظام أمني جديد يقوم على تحييد عام للشعوب؛ لكتابة نهاية التاريخ، ليس على طريقة فوكوياما بانتصار الليبرالية، ولكن على قاعدة "الإرهاب الوقائي، فليس عزيزاً على أمريكا - إذن - أن تجني الكراهية من كل شعوب الأرض، وهذا ما نطق به السيناتور الجمهوري الأمريكي "جون ماكين" في الكونغرس: "كم من شخص بات يكره أمريكا عندما شاهد صور التعذيب التي يقوم بها الجنود في أكثر من مكان. وليس من السهل - ولاسيما بعد صعود اليمين المحافظ وتحكم الرأسمالية النيوليبرالية - أن تستعيد أمريكا سيرتها الأولى يوم أن وضعت دستورها العظيم لدى ميلادها من رحم الثورة الأمريكية العظيمة؛ لأن "ذلك يحتاج إلى تغيير ثقافي واجتماعي ومؤسساتي داخل أمريكا، وتغيير النظام الديمقراطي الشكلي إلى نظام ديمقراطي حقيقي جديد؛ يتجاوز مظهر دورية الانتخابات التي تأتي بمن يخدم مصالح أصحاب المال والأعمال. إن حقبة الهيمنة الأمريكية صارت أطول بكثير من العمر الافتراضي لها؛ ولولا أن السنن الإلهية لا تتبدل لقلنا إنها قد خالفت قوانين العمران البشري وتجاوزتها، فقد أفلست الإمبراطورية الأمريكية من كل مقومات السيادة والريادة والهيمنة، حتى الديمقراطية؛ فقد صار الجميع يخشى عليها من صعود اليمين ومن استيلاء الرأسمالية على مقاليد الأمور، بل بلغ الأمر بالبعض إلى التشكيك في جدوى الديمقراطية ذاتها، فهذا أحد مفكريهم يقول: "كلمة الديمقراطية إذن لا تحدد بشكل دقيق لا شكلا للمجتمع ولا شكلا للحكم، المجتمع الديمقراطي ليس أبداً سوى رسم (فنتازي) موجه إلى دعم هذا المبدأ أو ذاك للحكم الرشيد، والمجتمعات اليوم مثل الأمس ينظمها تلاعب الأوليجاركيات، وليس ثمة حكم ديمقراطي بالمعنى المحدد، وأشكال الحكم تمارس دوماً من الأقلية على الأغلبية، إنه بحق شكل أوليجاركي. كما أن الانتخاب ليس في ذاته شكلا ديمقراطياً من خلاله يجعل الشعب صوته مسموعاً. سطوة الرأسمالية أحسب أن الهاجس الأكبر - وإن لم يكن الأظهر - وراء هذه الانتفاضة المفاجئة هو الخشية من سطوة الرأسمالية التي لا ترحم، والتي صارت تهيمن على القرار السياسي، وعلى حد تعبير بعضهم: "إنَّ عالما فيه رئيس أمريكي يصدر القانون تلو القانون المحابي لمصالح الشركات الكبرى، ولروبرت ميردوخ سلطان أقوى من سلطان توني بلير، وتضع الشركات الكبرى فيه الأجندة السياسية، إنما هو عالم مخيف وغير ديمقراطي، وقد تبدو فيه فكرة أخذ الشركات الكبرى دور الحكومة سائغة من بعض الجوانب". إننا رغم ذلك كله لن نكون سعداء بانهيار أمريكا مع صعود الصين وروسيا الأكثر وحشية وهمجية، وربما أقصى ما نتمناه أن تتمخض الأحداث عن نظام جديد متعدد الأقطاب، تخف فيه القبضة عن عالمنا الضعيف، لكن التطلع اللائق بنا يكون في الإجابة على هذا السؤال: أين دورنا نحن؟ أكاديمي مصري - أستاذ الفقه الإسلامي الجزيرة مباشر