07 نوفمبر 2025

تسجيل

المصالحة الفلسطينية.. من النيات إلى الفنيات!

12 مايو 2011

الذين يكتبون عن المصالحة الفلسطينية هذه الأيام غالبا لا يخرجون عن ثلاثة محاور ؛ التشكيك في قدرتها على تجاوز الانقسام، أو استقراء وتحديد ما أدى إليها من دوافع لدى أحد الطرفين أو كليهما، أو تلمس محددات موقف كل منهما وثوابته التي – في نظرهم - الكاتبين - لا يجوز التنازل عنها.. أما الخلاصة المتوصل إليها من كل ذلك فهي لا تخرج في الأغلب عن إلقاء ظلال اليأس على كل شيء ومحاولة تقرير أن الطرفين أو أحدهما (حسب موقع وقناعات وانتماءات كل كاتب) إنما يناور على الآخر ويتملص من المسؤولية الوطنية والأخلاقية عما ينتظره من (فشل حتمي) والخلاصة أيضا أن الكثير من الكاتبين بوأوا أنفسهم مكانة المعلم الأكاديمي أو المرشد الروحي للمتصالحين فراحوا يقررون ما هو من حقهم وما ليس من حقهم أن يفعلوه أو يقولوه أو يقرروه.. أما لم هذا المنحى في الكتابة؟ فالأسباب كثيرة ولعل أقربها أن الكتابة بلغة الانطباعات والوعظيات والأخلاقيات هي الأسهل ومفرداتها هي الأكثر والأوفر.. العدو – قادته وكتابه – تحدثوا أيضا عن المصالحة الفلسطينية ولكنهم عكسوا الاهتمام وبدلا من الحديث التحليلي والتحكمي فيما سبقها راحوا يتناولونها من جهة مخاطرها على الشأن الصهيوني كله، واستتباع كيفية مواجهة مترتباتها، وكأنهم يصوغون خطط عمل.. وهذا هو الذي أجده أجدى وأنفع للكاتبين عن المصالحة من طرفنا.. فهي مفترق إستراتيجي على الصعيد الوطني الفلسطيني والقومي العربي والديني الإسلامي، وإن فوات الفرصة التي صنعتها هذه المصالحة لهو القاصمة التي (ما لها من فواق) نسأل الله العافية.. المطلوب الآن هو إنجاح المصالحة وإنجاؤها مما يحضر العدو لها وما يملكه فعليا من أدوات قريبة وبعيدة للعبث بها وتخريبها.. وبتعبير آخر (ومع كل الاحترام والتقدير والتواضع أمام من يكتب وما يكتب) إن الطرفين المتصالحين يواجهان اليوم تحديات نوعية وتاريخية تتطلب ثقافة واستعلاء استثنائيا على الخصوصية الذاتية والحزبية وبالتالي فهم بحاجة إلى من يقدم لهما نصحا عمليا ومهنيا وتشجيعا جديا وأفكارا إبداعية وخبرات وتجارب عالمية تفكك رموز ومصطلحات ووقائع هذا الانقسام الذي ألقى بظلاله وبعقابيله الثقيلة على كل شيء، وهما بحاجة لترسم إستراتيجية ما بعد التوقيع على المصالحة أكثر من حاجتهما لمن يزيد همومهما أو يصنع أو يضع جبهة معنوية ضاغطة فوقهما.. في هذا السياق أقول: إن السياسة ليست فن الممكن فقط ولكنها فن صناعة الممكن، وفن التحايل على غير الممكن وتطويعه أو بعضه ليكون ممكنا ؛ والسياسة أيضا ليست الجمود على قوالب جاهزة من التفكير الأحادي الاتجاه الذي يأخذ تتابعا نمطيا ولكنها تحرك وتحريك للهوامش واستثمار للفرص واستشراف للمدى.. وعليه فإن ترقية الحوار والسيطرة على الخلافات مسألة ليست سهلة ولا تحكمها المواقف المسبقة فقط أو النيات الطيبة أو اللغة العاطفية أو سلوك المخاجلات والترجيات ؛ ولكنها عمليات فنية وقدرات ذهنية تصل أحيانا لأن تكون مسائل رياضية تصوغها وتنضجها خبرات ومؤهلات مهنية.. هذه هي السياسة وهذا هو العمل السياسي ؛ أما الحنكة السياسية لقائد ما فليست في علو صوته، ولا في قدرته على التملص من المواقف، ولا في رفع سقوفه إلى غير الممكن، ولا في الضغط على الطرف الآخر إلى حد اللامنطق واللاتصالح، ولا في مجاراة الأتباع والسير مع التيار واختيار الأسهل.. ولكنها صنع انعطافات التاريخ التي تحمل كل ذلك وشيئا من نقائضه على أساس التضحية بالقليل لأجل الكثير وعلى قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، والمقايضة بين الخيارات.. وقديما قال الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه في مسألة بعينها " إننا نشتري بعض ديننا ببعض ". فإذا كنا نتكلم عن حوار ليس أمامنا إلا أن ننجحه.. فإن على المتحاورين أن يمتلكوا من الشجاعة الأدبية والنظرة الكلية للأمور وميزان الترجيح الوطني والثوري ومهنية العمل ما يتجاوزون به اعتبارات الفصيل والحزب والشخص والمصالح واللحظة السيئة بإبداع فارق للأسف لم نعتد نحن العرب عليه وبالأخص في هذه الفترة المتردية من ثقافتنا المختلطة ومن إشكالاتنا الفكرية والسلوكية – وأقول تحديدا لا تعميما: إن سر النجاح الذي يجب أن ترقى إليه حوارات ما بعد توقيع المصالحة هو أن يتخلى كل طرف عن اشتراط أن يتطابق معه الآخر على كل شيء أو أن يتنازل له عن كل مكتسباته (أو ما يتوهم أنها مكتسباته)، وسره أيضا أن يتخلى كل طرف عن فكرة أن ملفا واحدا يساوي كل الملفات وأن عدم تحقيق اختراق فيه يعني الفشل الكامل وأن تذهب المصالحة كلها إلى الجحيم.. وأقول تحديدا أيضا: العثرة في أي ملف يجب أن تكون متوقعة ويجب بالتالي التحضر لتفهمها ثم لتجاوزها.. أما كيف؟ فهنا مربط الفرس – كما يقولون – وهنا تطلب الحكمة وتمتحن الحنكة.. وليس بالصخب والحرد والتهديد ولا بالشكوى للرأي العام ولا باستعراض القوة ولا بالجمود على المواقف وتحميل كل طرف للآخر مسؤولية البحث عن مخرج ولا بتحكيم نظرية الفشل ومنطق " إما هذا أو لا شيء سواه "؟ وأقول أيضا: كم من فشل تحول في فترة أخرى أو ضمن سياق آخر لنجاح؟ وكم من أزمة أمكن حلها وتفكيك رموزها بترحيلها لمحاولة أو محاولات أخرى أو بتجزئتها والتعامل معها كأجزاء ومقايضات أو بتحريك المساعي والمقاربات لها أو بتحجيمها؟ المصالحة ذاتها ألم تكن قبل توقيعها بأسابيع بل بأيام.. بعيدة المنال؟ ثم ها هي قد تحققت! فإن جئنا للواقع أو ذهبنا إلى التاريخ فلنا من كل ذلك عبرة! وإن شئنا فمن السيرة المطهرة القدوة والنبراس - هذا يقال لحماس وأيضا لفتح –: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترط على كل من يتفاوض معهم أو يتعاون معهم أن يطابقوه في كل شيء وعلى كل شيء؟ ألم يتحالف مع بني ضمرة في أول العهد المدني وهم كفار؟ فإن كان ذلك أول العهد المدني حيث الاحتياج ؛ فقد فعل مثله مع خزاعة آخر العهد؟ وإن قيل: ذلك تحالف على غير برنامج سياسي وعلى غير الأرض الواحدة والمشروع الواحد ولا يقتضي تفاعلات يومية وتفصيلات إثارية! أقول: لقد أقام صلى الله عليه وسلم في المدينة مشروعا سياسيا متكاملا مع اليهود بفئاتهم وقبائلهم احتوى عشرات البنود التي شملت كل نواحي الحياة اليومية السلمية منها والحربية والداخلية منها والخارجية والسياسية منها والاقتصادية ومسائل التسليح والعلاقات (ولولا أن اليهود نقضوا ما نقض لهم عهدا ولا مس لهم شرطا)!! وإذا جئنا للغة الواقعية السياسية التي يفهمها ويتعامل بها الطرفان فإلى حماس أقول وبها أبدأ: هل كل ملفاتكم مع تنظيم الأحرار وكتائب أبو الريش وحزب الله وغيرهم.. هل كلها متفق ومتطابق عليها؟ وعندما اخترتم أو عرضتم على فتح والجهاد والشعبية.. المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية بعد الانتخابات هل كانت كل العقد معهم محلولة؟ وإلى فتح أقول وبذات اللسان: من أولى بصبركم وطول نفسكم ؛ العدو أم إخوانكم في حماس؟ وإذا كنتم على خلاف مع حماس في البرنامج أو المصالح الذاتية ؛ أليس الخلاف مع العدو خلاف دين ودنيا؟ وكم مرة تعطلت بين أيديكم – معه - ملفات واشتغلتم بغيرها؟ وكم ملف أنجزتم نصفه أو ثلثه وبقي الباقي؟ أليس كل ملفات الوضع النهائي قد اتفقتم على تأخيرها خمس سنوات يوم اتفاق غزة وأريحا؟ ثم صبرتم على تأخيرها عمليا وفعليا منذ ال93 لثماني عشرة سنة حتى الآن؟ وإذا صحت مقولة " خذ وطالب " التي طالما وكثيرا ما كررتموها لتسويق اتفاق " غزة وأريحا أولا " واعتبرتموها حنكة وحكمة فلماذا لا تصلح ولا تصح مع الأهل والأخ والجار والقريب وشريك الدم والعرض والوطن؟ آخر القول: الحوار الفلسطيني بحاجة لأن يرقى من العاطفية إلى العقلانية، ومن قصر النفس إلى طوله، ومن ثنائية النجاح والفشل، وثنائية إما معي أو ضدي إلى إمكانية ما بين النجاح والفشل، وإلى وحدانية (الدم اللي ما بصير ميه)، أما المصالحة فيجب أن ترقى لتكون أكثر من تكتيك وتحريك إلى أن تكون هدفا حقيقيا.. وأما الكاتبون فهذا ميدانهم للإبداع وهو محكهم.. لينتقلوا بنا من الحديث عن النيات المطلوبة لإنجاح المصالحة إلى الفنيات والمهارات التي لا يستغني عنها عامل في السياسة فضلا عن أن يكون قائدا وتلقى عليه مسؤوليات تاريخية بهذا الحجم..