10 نوفمبر 2025
تسجيلأحمد الله على أنه قيض لي بعض الساعات لأنعزل في ركن من أركان البيت أقرأ كتبا جديدة باللغتين العربية و الفرنسية اقتنيتها هنا و هناك و لم أفتحها إلا عندما أغلق الهواتف الذكية (و أستعمل الهواتف الغبية!) و أغلق الأيباد والحاسوب والتلفزيون وأمارس هوايتي القديمة في تلمس أوراق الكتاب و مطالعته بشغف وأجد بين دفتيه المعرفة و المتعة وهو أداة الفكر الوحيدة التي تجعلك تفكر بهدوء في عالم ازدحمت فيه أدوات الاتصال السريعة الآنية التي تتلاعب بعقلك و تخرب ذبذباتها خلايا مخك وتقتل فيك ملكة التفكير بالرغم عنك. أقرأ هذه الأيام ستة كتب شديدة الاختلاف من حيث مؤلفيها ومناهج تحليلهم و انتماءاتهم الفكرية لكنها تتفق جميعا في تعميق البحث حول معضلات العصر و تقلبات التاريخ فإذا بي أجد نفسي و أنا أقرأها أشد اطلاعا على أسباب المصائب التي ابتلي بها العرب و المسلمون و أكثر إلماما بحقائق خفيت على وعلى كل من يكتفي بالعابر من الملاحظات التويترية والسطحي من المواقف الفاسبوكية. الكتاب الأول من تأليف المؤرخ الفرنسي (مارك فيرو) وهو بعنوان (العمى: نحو تاريخ مختلف لعالمنا) نشر مؤسسة (تالندييه) للنشر و فيه تقديم لنظرية هذا المؤرخ الشهير التي تقول بأن الزعماء يصابون بنوع من العمى حين ينتصرون مؤقتا فيضلون و يعمون شعوبهم و لا يرون حقيقة الأحداث ولا يفقهون مجرى التاريخ فيقعون في مطبات كبرى تتحول بالنسبة لشعوبهم الى كوارث أليمة و أزمات حادة و حروب عاصفة. ويحلل المؤرخ عمى هتلر و ستالين و موسوليني و أمبراطور اليابان حين لم يتصوروا أنهم يأخذون قرارات خاطئة أثناء الحرب العالمية الثانية كما يحلل عمى زعماء الغرب في التعاطي مع الأزمات العربية منذ استقلال الشعوب العربية إلى ميلاد القاعدة وداعش و استفحال القضية الفلسطينية بدون رؤية حق أو قانون. الكتاب الجديد الثاني هو للزميل الجامعي الفرنسي (جيل كيبيل) بعنوان (الرعب في فرنسا) إصدار مؤسسة (غاليمار) وهو يروي قصة الهجومات الإرهابية على أهداف مدنية في باريس يوم 13 نوفمبر 2015 و قبلها على مجلة (شارلي هبدو) في يناير من السنة ذاتها. و يحاول هذا الجامعي المتخصص فك شفرات ما سماه (الجهادية الفرنسية) بالرجوع الى رحمها الأول أي المجتمع الفرنسي و الأوروبي عموما وهو مجتمع لم يوفق في دمج أقلية من الشباب العربي المسلم المولود في صلبه و الذي تخرج من مؤسساته التعليمية فعدد الفرنسيين الملتحقين بالجهاد يبلغ أكثر من الألف قتل منهم 150 و ما تزال أوروبا مهددة باعتداءات قادمة كما تبين من تفجيرات مطار و مترو بروكسل العاصمة السياسية للإتحاد الأوروبي.الكتاب الثالث هو (الحرب الصليبية الثانية: حرب الغرب المستعرة ضد الإسلام) تأليف المفكر الأمريكي John Feffer و مترجمه للعربية هو محمد هيثم نشواتي إصدار منتدى العلاقات العربية و الدولية بقطر (مع العلم أني لم أسمع بهذا المنتدى من قبل و يبدو أنه تابع للقرية الثقافية كاتارا و لكني أبارك أعماله) يأتي الكتاب على وجوه الشبه في العمق بين الحملات الصليبية الأولى و هذه الحملات الجديدة التي تختلف أدواتها و أهدافها كما يحلل مصادر المشاعر الغربية المعادية للإسلام التي تجسدت في الهجمات الصليبية منذ عام 1095 تاريخ انطلاق جحافل الصليبيين من أوروبا إلى بيت المقدس إلى اليوم تحت شعار مقاومة الإرهاب. رغم ضعف الترجمة العربية و افتقاد الكتاب لأي تعريف بالمؤلف يبقى وثيقة تاريخية يحسن الإطلاع عليها. الكتاب الرابع هو بالفرنسية بعنوان (نهاية الغرب: أمريكا و أوروبا و الشرق الأوسط) تأليف المحلل السياسي الفرنسي francois heisbourg وهو عمل أكاديمي يدين سياسات المحافظين الجدد الذين زيفوا تاريخ العلاقات الإسلامية الغربية و حددوا أهدافا للحكومة الأمريكية و حلف الناتو في قلب العالم الإسلامي لضربها من أجل ما اعتقدوه حماية مصالح الغرب و يدعو الكاتب أوروبا لسن سياسات سلمية حكيمة مرجعها القانون الدولي و حقوق المسلمين لتجنب حروب دموية قادمة. الكتاب الخامس بالفرنسية أيضا تأليف Richard Flecher بعنوان (الصليب و الهلال) يؤرخ للعلاقات القديمة المعقدة بين الديانتين حيث كات اعتقاد أغلب المسيحيين منذ فجر الإسلام أن الرسول صلى الله عليه و سلم ما هو إلا عدو للمسيحية و متمرد على منظومة الوثنية. و يؤكد المؤلف أن الإسلام انفرد في عصوره الذهبية بالعلوم و الإبتكار و التسامح و نشر دعوته مقابل مسيحية تجزأت إلى ملل و نحل متناسلة. يستعرض الباحث تاريخ بداية التوسع الإسلامي في مواجهة العالم المسيحي و ما تبعه من فتوحات ثم من حروب صليبية ثم من استعمار وصولا إلى عصرنا الحديث الذي عمق الخلافات و نشأت فيه حركات التحرر الإسلامي و البحث عن توحيد الأمة. الكتاب السادس الذي جعلته قريبا مني أنهل منه كلما تعبت من الجدية الأكاديمية للكتب الأخرى هو كتاب بالعربية من تأليف أستاذي طيب الذكر رحمة الله عليه مالك بن نبي المفكر و الطبيب الجزائري الذي لم يأخذ حظه من التعريف به و دراسته و تدريسه لا في حياته و لا بعد وفاته. فهو الذي تتلمذنا عليه في الستينيات و السبعينيات وهو مؤلف عشرين كتابا جمعها كلها تحت عنوان واحد هو (مشكلات الحضارة) و حلل فيها الظاهرة الإستعمارية وهو واضع نظرية (قابلية الإنسان العربي للإستعمار) و المحرض الأول على التمسك بالهوية الإسلامية لمقاومة الثقافة الدخيلة. عنوان الكتاب هو (الظاهرة القرأنية) قام فيه بتحديث و تحيين أهم رسالات الوحي القرأني. كتاب ينير عصرنا الحاضر المهدد لكياننا و وجودنا. رحمك الله أستاذنا و غفر لنا غفلتنا عن الإفادة من صالح أعمالك.