11 نوفمبر 2025

تسجيل

قاعدة البخل !

11 ديسمبر 2013

تعد "قاعدة البخل" إحدى أهم قواعد التفكير التي ساعدت الأوروبيين على الانتقال من فكر العصور الوسطى إلى فكر النهضة، وتنسب أصول هذه الفكرة إلى الفيلسوف وعالم اللاهوت الإنجليزي وليام الأوكامي، وتشير إلى الاقتصاد في التفسير، وعدم تجاوز التفسيرات المباشرة إلى التفسيرات الأبعد، وذلك لأن التفسيرات المباشرة عادة ما تكون الأقرب إلى المنطق، أما التفسيرات البعيدة فهي إما مجافية للمنطق أو ضعيفة الصلة بالمشكلة موضع الاهتمام. فنشوب حرب 1967 على سبيل المثال يمكن أن يفسر بقيام الرئيس جمال عبد الناصر بغلق المضايق أمام الملاحة الإسرائيلية، بعدما تواترت إليه معلومات عن قيام إسرائيل بحشد قواتها على الحدود السورية، وهذا هو التفسير المباشر، أو أن يفسر بالعداء التاريخي بين المصريين واليهود بعد قيام الفرعون المصري بملاحقة بني إسرائيل وغرقه وجنوده بسبب ذلك، وهذا هو التفسير البعيد. وكما نرى فإن التفسيرات المباشرة تتميز بأنها الأقرب إلى المنطق والأبعد عن الخيال، ولذا فقد أطلق على هذه القاعدة اسم شفرة أوكام، لأنها تستبعد التفسيرات غير المهمة وتقتصر على ما له علاقة بالموضوع. هذه القاعدة يمكن تطبيقها في الكثير مما يخص الشأن المصري لكي تكون معيارا للفصل بين المتجادلين، الأمر الذي قد يساعد على التخلص من كثير من جوانب التفكير بالتمني والاقتصار على الأبعاد الفعلية التي تمثل المنطق في أبسط صوره. ظاهرة صعود الإخوان بعد ثورة 25 يناير على سبيل المثال يمكن تفسيرها تفسيرا مباشرا بمقدرة الجماعة التنظيمية وقدرتها على التعبئة واستغلال الحضور على الأرض في حشد الأصوات لمرشحيها، أما التفسير البعيد فيقصر هذه الظاهرة على استغلال الجماعة للمشاعر الدينية لدى البسطاء وتوزيع المساعدات العينية عليهم، (البعض ذهب إلى أن صعود الإخوان يفسره استغلالهم الديمقراطية للوصول إلى السلطة!). الأمر نفسه فيما يتعلق بفوز الدكتور محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية؛ فالتفسير المباشر يذهب إلى أن الكثير من المصريين من غير الإخوان قد أعطوه أصواتهم هروبا من مرشح النظام القديم، وتعاطفا مع دماء الشهداء الذين سقطوا في ثورة 25 يناير، أما التفسير البعيد فيذهب إلى حدوث تلاعب في عملية التصويت، وخروج بطاقات مسودة لصالح الدكتور مرسي، فضلا عن وجود مؤامرة كبرى شاركت فيها الولايات المتحدة التي ضغطت من أجل فوز مرشح الإخوان. واستطرادا مع النقطة السابقة فإن التقارب الذي حدث بين نظام الدكتور مرسي والولايات المتحدة يمكن تفسيره مباشرة بأنه كان في إطار حرص النظام الجديد في مصر على عدم استثارة عداوة الدولة الأكبر في العالم، أما التفسير البعيد فيذهب إلى أن نظام الإخوان كان أداة الولايات المتحدة لتنفيذ مشروعها الخاص ببناء الشرق الأوسط الكبير وتحقيق الفوضى الخلاقة، على أساس من توطين الفلسطينيين في سيناء وتسليم الغاز المصري إسرائيل! وبالمثل فإن إصدار الدكتور مرسي إعلانه الدستوري الشهير يمكن أن يفسر تفسيرا مباشرا بأن مرسي أراد أن يحصن الجمعية التأسيسية حتى تنتهي من كتابة الدستور قبل أن تتصيدها المحكمة الدستورية بقرار "حل" مشابه لما أصدرته بحق البرلمان المنتخب، أما التفسير البعيد فيميل إلى أن مرسي أصدر الإعلان الدستوري لكي يجعل نفسه فوق القانون، ويتمتع بقدرات الحاكم الديكتاتور الذي لا تمكن ملاحقته أو محاسبته. فإذا ما قفزنا إلى تاريخ الثالث من يوليو، تاريخ قيام وزير الدفاع بالانقلاب على الرئيس المنتخب، فإن التفسير المباشر يقرأ هذا التحرك في إطار خوف المؤسسة العسكرية على مصالحها الاقتصادية وامتيازاتها السياسية، وهو ما تأكد من خلال إصرار قادتها على أن تتم معاملتهم معاملة استثنائية في دستور 2012 ثم في الوثيقة التي أعدتها لجنة الخمسين المعينة تحت اسم دستور 2013. أما التفسير البعيد فهو أن العسكر قد تدخلوا لإنقاذ البلد من حرب أهلية، وأنهم فعلوا ما فعلوه من أجل إنقاذ البلاد من "إرهاب الإخوان". حادثة فض اعتصامي رابعة والنهضة وما صاحبها من قتل بالجملة يمكن تفسيرها أيضا تفسيرا مباشرا بأن كلا من الداخلية والشرطة العسكرية قد استخدمتا القوة استخداما مفرطا ولم يحاولا التدرج في الفض. أما التفسير البعيد فهو أن المعتصمين أنفسهم كانوا مسلحين، وأنهم تلقوا أوامر من قادتهم بتصفية بعضهم البعض وذلك حتى ينسبوا خسائرهم لرجال الأمن ومن ثم يتمتعون بوضعية الضحية ويحصلون من خلالها على ما لم ينجحوا في الحصول عليه من خلال اعتصامهم. وأخيرا وليس آخرا فإن التفسير المباشر لاستمرار خروج المظاهرات المؤيدة للشرعية أن هناك حالة حقيقية من الإحساس بالظلم لدى منظمي هذه المسيرات الذين يحاولون ألا تستقر الأوضاع عند مشهد الانقلاب، بما يحمله من ملامح النظام القديم باستبداده وتسلطه وقمعه للحريات، أما التفسير البعيد فيربط بين هذه المسيرات وبين الرغبة في إسقاط الدولة وهدم المؤسسات، على اعتبار أن من يقومون بها جماعات إرهابية لا تنتمي لهذا البلد وإنما تنتمي إلى فكرة الخلافة التي لا تأخذ في اعتبارها مصلحة هذا البلد. المشكل في التفسيرات البعيدة ليس فقط أنها كثيرا ما تجافي المنطق، (مثل القول إن الإخوان قد استغلوا الديمقراطية للوصول إلى السلطة)، ولا أنها كثيرا ما تشير إلى تخمينات لم تحدث على أرض الواقع (مثل القول إن مرسي استغل الإعلان الدستوري لممارسة الديكتاتورية)، أو أنها تتضمن افتراضات كذبتها التطورات اللاحقة (مثل افتراض تحالف مرسي مع أمريكا!)، ولكن أيضا في أنها لا تقوم عادة على أدلة ملموسة، فالكثير مما تم رصده أعلاه من "تفسيرات بعيدة" ليس أكثر من مقولات ترددت في الإعلام، ولم يكلف أصحابها أنفسهم بمحاولة إثباتها، وحتى ما أخذ منها شكل الدعاوى القضائية لم يصدر في أي منها حكم تثبت بها حقيقته، وتحولت إلى زوبعة في فنجان قبل أن يطويها النسيان، يصدق هذا على كل من أزمات البطاقات المسودة، وانتهاء بالاتهامات ببيع سيناء وقناة السويس. الرجوع إذن إلى التفسيرات المباشرة يمثل إعادة اعتبار للمنطق الذي تمت التضحية به على مذبح التعصب، كما قد يمثل مدخلا لحل الأزمة التي تشهدها البلاد على أساس من العقلانية المجردة من الهوى.