08 نوفمبر 2025
تسجيلاستعرض معي وزير خارجية فرنسا إبان العدوان الثلاثي على مصر في الحلقة الأولى تفاصيل الإعداد للعدوان و كيف أن (بن جوريون) رئيس حكومة إسرائيل احتال على فرنسا و بريطانيا بالادعاء أن عبد الناصر يستعد لإبادة يهود الدولة العبرية و أن إسرائيل سوف تشن حربا استباقية و تريد من باريس و لندن مجرد غطاء جوي. يقول كريستيان بينو: "أعتقد أن كثيرا من اعضاء الحكومة الفرنسية في ذلك الحين كانوا يؤمنون بذلك الطرح الإسرائيلي للأسباب النفسية التي ذكرتها آنفا وبعضهم كان لا يؤمن به وإنما كان يريد تلقين درس لعبد الناصر انتقاما منه وعقابا لمصرلإعانتها للثورة الجزائرية, ولكن هؤلاء وؤلئك وجدوا في عرض (بن جوريون) فرصة سانحة لتحقيق غاياتهم. وجاء الاجتماع السري الذي أصبح شهيرا بعد ذلك باسم (لقاء سيفر) أو (اتفاق سيفر) في فيلا بالمدينة الفرنسية الصغيرة قرب باريس (SEVRES) حيث تقابلت مع (بن جوريون) الذي جاء في زيارة سرية إلى باريس ومع (إيدن) رئيس الحكومة البريطانية الذي لم نعلن عن زيارته إلى بلادنا. وفي الحقيقة لم يكن اجتماع (سيفر) اتفاقا بل كان مجرد وثيقة خطية حررت بيننا نحن الثلاثة ولكنني فوجئت بإعلان (إيدن) بأن بريطانيا لا تنوي التوقف عند حد إعانة إسرائيل وتوفير غطاء جوي لها بل هي مستعدة لاحتلال القناة وإنزال جيوشها في بورسعيد ففهمت من إعلان (ايدن) أن بريطانيا تريد منع إسرائيل من احتلال القناة و استفراد لندن بهذه العملية نظرا لوضعها الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط. فرفضت أنا باسم فرنسا قطعيا هذا الاقتراح وأعلمت (بن جوريون) و(إيدن) أنه لا مجال للاحتلال الدائم بل إن العملية العسكرية كما نراها تهدف لمنع التأميم بالقوة وتلقين عبدالناصر درسا قاسيا. وفعلا نسقنا العملية العسكرية وتمت من 29 اكتوبر إلى 7 نوفمبر 1956 واحتل الجيش الإسرائيلي سيناء وبدأت الساحة الدبلوماسية تتحرك بعد وقف إطلاق النار. فمن موسكو جاء تهديد خروتشوف بضرب لندن بالقنابل إن تواصلت العملية ضد مصر, وقد تقابلت بعد ذلك عشر مرات مع خروتشوف في موسكو شهورا وسنوات بعد العملية الثلاثية وسألته: هل كانت موسكو تنوي بحق ضرب لندن لو تواصلت العملية, فكان جوابه لا لقد هددنا للتخويف فقط. ومن جانب أمريكا فإن وزير الخارجية (جون فوستر دالس) أكد لي مرات عديدة بعد العملية إن غاية أمريكا كانت إقصاء فرنسا وبريطانيا عن أهم المناطق الاستراتيجية في العالم حين أخذ الرئيس (إيزنهاور) موقفا منددا بالعدوان الثلاثي. يواصل الوزير بينو استعادة ذكرياته عن تلك المغامرة العجيبة ويضيف:"ولنعد إلى أيام العملية العسكرية: تلقيت في اليوم الثالث مكالمة هاتفية من (إيدن) يقول لي فيها: (إنني قررت سحب قواتي من بورسعيد وإيقاف القتال, فأكملوا المشوار لوحدكم, أما من جانب القوات الفرنسية فكانت خسائرنا معدومة إذ لم نفقد إلا ضابطا واحدا .. وكان موته من جراء حادثة شاحنة. وتحركت منظمة الأمم المتحدة وأمينها العام النشيط (داج هامرشولد) لتتوسط في فك الاشتباكات وتشرف على سحب القوات. وأعتقد بعد هذا الزمن الذي مر أن خروج شارل ديجول من الحلف الأطلسي جاء نتيجة تخلي أمريكا عن أوروبا في عملية السويس, فقد كانت أوروبا تطمح للعب دورها كقوة اقتصادية كبرى في مجال الاحتفاظ بمناطق نفوذ سياسي وثقافي. وأذكر أن محمد حسنين هيكل كتب في الأهرام بعد العملية ومفاوضاتها اللاحقة قائلا: : "إن (إيدن) هو عدونا الحقيقي لكن المفاوض الصعب كان (كرستيان بينو)". وهناك حدث آخر يبدو بعيدا عن قناة السويس ولكنه ملتصق بأحداث السويس ألا وهو عملية القرصنة الجوية التي قام بها الجيش الفرنسي واختطاف أحمد بن بيلا الزعيم الجزائري للثورة المسلحة ورفاقه الأربعة, وكانت طائرتهم تقلهم من المغرب الأقصى إلى تونس, فقد كانوا ضيوفا لدى الملك محمد الخامس وكانوا ذاهبين للاجتماع مع رفاقهم بجبهة التحرير الجزائرية في تونس حيث كانوا ضيوفا لدى الحبيب بورقيبة, فهذه العملية القرصانية نفذها أحد قادة الجيش (ماكس لوجون) بإذن خاص وسريع من وزير الدفاع ولا أدري حقيقة ذلك اليوم هل كان رئيس الجمهورية أو الوزير الأول على علم بالذي حصل ؟ فالمغرب وتونس كانتا دولتين مستقلتين وهذه ضربة في ظهر العلاقات التي كانت طيبة مع ملك المغرب ورئيس تونس. ومن جهة أخرى أذكر كلمة قالها لي (فوستر دالس) في الباكستان ولم أنسها لأنها عرفتني على العقيدة السياسية الامريكية الثابتة إذ قال لي: إسمع يا كرستيان, نحن الأمريكان لدينا نوعان من الدول: النوع الأول هي الدول المسيحية وذات الاقتصاد التحرري والثاني هي كل الدول الأخرى, الأولى أصدقاء والثانية أعداء. سألت كريستيان بينو عن العبر التي استخلصها هو ذاته و حكومته بعد سنوات من العدوان الثلاثي فأجابني دون تردد: "ان تلك العملية العسكرية كانت مغامرة غير محسوبة العواقب و لم ترفع رأس فرنسا ولا بريطانيا ولم تكن لها أي نتائج إيجابية بل كان الإسرائيليون هم المستفيدين الوحيدين منها وحدهم. و أضاف مخطط العدون و منفذه قائلا : لقد سجل ( دوايت إيزنهاور) الرئيس الأمريكي إبان العدوان في مذكراته أنه لم يكن على علم بنوايا فرنسا وبريطانيا الخطيرة في الهجوم على مصر, في حين كنت أعلمت سفير امريكا في باريس قبل أيام ولم يكن من المعقول أن تتحرك قوتان كبيرتان في الحلف الأطلسي مثل فرنسا وبريطانيا دون أن تكون الأخت الأمريكية الكبرى على علم! و واصل الوزير بينو ذكرياته :"كان (إيدن) يعتقد اعتقادا جازما أن جمال عبدالناصر عميل سوفييتي ويأتمر بأوامر موسكو" . فقد عاد عبدالناصر من مؤتمر باندونع 1955 موشحا بوشاح الزعيم الصيني (شوان لاي) ومحصنا بصداقة الزعيم اليوغسلافي (بروز تيتو) و تحول في نظر العرب إلى زعيم القومية العربية و في نظر العالم الثالث إلى زعيم كتلة عدم الانحياز منذ مؤتمر باندونج . وكانت غاية (إيدن) أن يمنع عبدالناصر من الزعامة العربية على حساب مصالح بريطانيا وأوروبا بأكملها وأمريكا. قدمت وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي. آي ايه) للرئيس (إيزنهاور) عدة سيناريوهات لاغتيال جمال عبدالناصر ورفضها كلها وعندما سألته شخصيا ذات يوم عن سر رفضه لاغتيال عبد الناصر قال لي: إن اغتياله سوف يزيد من زعامته لكن العمل الناجع الحقيقي إزاء العرب هو أن نتركهم ضعفاء وتابعين لعدة اجيال.