05 نوفمبر 2025

تسجيل

بداية الهزيمة

11 أكتوبر 2012

القارئ لتاريخ الدولة الإسلامية يجد الكثير من مواطن الضعف والوهن التي ابتليت بها الأمة الإسلامية في العصور القديمة والعهود الحديثة، والمُشاهِد لأحوال الأمة العربية والإسلامية قديماً وحديثاً يصل إلى نتيجة واحدة هي أن هذه الأمة ترتبط نهضتها وعزّتها بمدى ارتباطها بدينها فالعلاقة طردية متناسبة في ذلك ويرتبط تخلّفها وتأخرها كذلك بمدى بعدها عن دينها الذي أكرمها الله به وشرّفها به بأن جعل خاتم الأنبياء والمرسلين منها وفيها فالعلاقة عكسية متناسبة في ذلك أيضاً. وما من حقبة من الزمان شهدت نكسة أو هزيمة أو احتلالاً لأرض الإسلام أو مذبحة من مذابح المسلمين الكثيرة المتكاثرة إلا وسبقتها حالة من الفساد المالي والأخلاقي لحاكم أو لمجموعة من حكّام المسلمين، فسقوط الإمارات الإسلامية في غرناطة واحدة تلو الأخرى كان قد سبقه في التاريخ عهود من الفساد لحكّام تلك الإمارات التي بدأت في الضعف شيئاً فشيئاً حتى سقطت في أيدي أعداء الأمة مما أدّى لتقلّص رقعة الدولة الإسلامية التي انتشرت بقوّة الحق والعدل وسماحة الدين الإسلامي الذي انتشر بقِيَمه وأخلاقه التي دعي إليها، ومنذ أن بدأت تلك القيم والأخلاق في الضعف والتلاشي بدءاً من قصور الحكّام إلى بيوت الرعيّة حتى بدأ عصر الهزيمة في الظهور. وفي القصّة المشهورة عن "عبدالله الصغير" آخر حكّام الممالك الإسلامية في غرناطة عندما جلس يبكي ضياع دولته وذهاب حكمه فرأته أمّه يبكي كالطفل الصغير وقالت له مقولتها الشهيرة " ابكِ كالنساء.. مُلكاً لم تحافظ عليه كالرجال" وقد أصابت هذه المرأة الحكيمة التي علمت سبب الهزيمة ولخّصته في أقصر الكلمات وأبلغها معنى، فالذي لا يحافظ على أمواله وممتلكاته من طمع الطامعين أو كيد الحاقدين أو نهب السارقين فإنه لابد أن يذوق مرارة الفقد والحرمان في يوم من الأيام وهذه سنّة كونيّة في كل الأمور، فالذي لا يحافظ على إيمانه مثلاً بمداومة الصلوات والإكثار من فعل الصالحات فإنه حتماً سيفقد شيئاً فشيئاً ذلك الإيمان في قلبه وسينطفئ نور الإيمان في صدره لعدم تغذيته وتقويته له، فلا إيمان يبقى على حاله ما لم يتجدد يومياً ويتحرّك في القلب والجوارح حتى يطغى على النفس ويكبح جماح الهوى والشهوات. وهاهو التاريخ يعيد الأحداث ويكرر الهزائم التي لحقت بالأوّلين في بيان واضح لعدم استفادة الإنسان من التاريخ بماضيه وحاضره من أجل استشراف مستقبله، ولهذا جاء القرآن الكريم والسنة المطهّرة محذّرين في كثير من المواطن ومنبّهين على أهميّة الاتعاظ والاستفادة مما حلّ بالأمم السابقة من عقاب وعذاب لعصيانها تعاليم دينها ورفضها رسالة أنبيائها وانغماسها في ضلالاتها السابقة وفي الملذّات والشهوات التي جاءت الرسالات السماوية محذّرة منها ومن الانشغال بها دون الانشغال بالمقصد العظيم الذي خلق الله من أجله الإنس والجن.. قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فقد ابتليت الأمة بحكّام انغمسوا في ملذاتهم وشهواتهم دون الانشغال بتنمية ونهضة أوطانهم فكانت مصالحهم الخاصة ومصالح أبنائهم وأسرهم الحاكمة تطغى على كثير من الأولويات التي كان ينبغي أن تنشغل بها البلاد وهي تنافس غيرها في التقدم العلمي والصناعي والاقتصادي أو تنشغل فيه بمقاومة أعدائها والاستعداد لهم بالقوّة الرادعة المطلوبة والأنظمة الدفاعية اللازمة، فلقد انشغل الحكّام بتوافه الأمور وترف العيش حتى أصبح همّهم نهب خيرات بلادهم والتنافس فيما بينهم في البقاء على كراسي الحكم لأطول فترة ممكنة لا لإقامة حكم الله في الأرض وخلافته لها بالحق والعدل وإنما لنهب الثروات واستغلال البلاد والعباد حتى أصبحت البلاد العربية والإسلامية موضوعاً للتندر والفكاهة في القصص التاريخية والحكايات بل ورسّخت ذلك بعض القصص والحكايات بدءاً من ألف ليلة وليلة وانتهاء بحكايات شهرزاد وشهريار وغيرها من الحكايات التي تحكي عن ترف القصور وجشع الحكّام وانغماسهم في الشهوات والملذّات حتى رسم العالم والغرب صورة الحاكم العربي في ذهنه بذلك الرجل البطين المتكئ على الوسائد والأرائك والمتنعّم بالغلمان والجواري والمحاط بالنساء من كل جهة وصوب فأي نهضة وأي حضارة ستقوم على أشباه هؤلاء الحكّام وبطانتهم التي تهتم بإقامة الموائد والولائم والتفاخر والمباهاة بالأولاد والممتلكات حتى أصبحت الشعوب نفسها ضمن تلك الممتلكات التي يتباهى بها الحكّام فيما بينهم لأنهم أصبحوا في نظرهم قطعاناً من الأغنام يقودونهم من مكان لآخر دون إذن أو مشورة. لقد كان الكثيرون يتساءلون عن سر هذا التخلف الحضاري الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي دون غيره من الأمم ولكن الثورات الشعبية في بعض بلاد المسلمين مؤخراً كشفت جزءاً من تلك الأسباب التي أدّت لذلك التخلّف عندما أظهرت للعالم بأسره كم كانت تعيش البلاد العربية والإسلامية ولا تزال تحت ظلم وبطش حكّام سرقوا من أموال شعوبهم وخيرات بلادهم ما لم يسرقه حاكم شيوعي أو ماركسي أو علماني أو صليبي أو صهيوني من قبل رغم أنهم محسوبون من أمة الإسلام غير أنهم لا يحملون من الإسلام إلا اسمه أو هيئته.. وللحديث بقية إن شاء الله.