08 نوفمبر 2025

تسجيل

القرآن والسلطان

11 يوليو 2022

أثارت قضية الفصل الأول من الدستور التونسي هذه الأيام مسائل معقدة وشديدة التأثير في الجدل الفكري والعقائدي في المجتمعات العربية والمسلمة، وهو ما يؤكد أن تمسك شعوب الأمة بدينها وحضارة دينها يبقى محركاً للحياة السياسية والثقافية لدينا، وهذا في حد ذاته مكسب ثمين، وتذكرت حكمة تنسب إلى الخليفة عثمان رضي الله عنه وهي: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، لكن حين نعود للتاريخ نجد أن أول التصادمات بين الإسلام والأديان الأخرى تم أثناء الفتوحات الإسلامية التي اعتمد فيها الفاتحون عموما آليات الإقناع ونشر العلوم وتنوير الأفكار، ثم كانت الصدمات القاسية أثناء الحملات الصليبية السبع التي انطلقت من كاتدرائية (كليرمون) بفرنسا بخطاب عنصري متعصب للبابا يوربان الثاني جند فيه الجيوش الصليبية من كل أوروبا بقيادة فرنسا بتعلة "تحرير أكفان السيد المسيح من أيدي الكفار!" يقصد المسلمين. وبدأت المجازر مع تخريب بيت المقدس ثم احتلال الشام وتواترت الحروب إلى أن انتهت عام 1270 بموت ملك الصليبيين لويس التاسع الملقب بالقديس في قرطاج بتونس، ثم أعيدت حملة صليبية ثامنة في شكل مغامرة نابليون بونابرت في مصر والشام عام 1799 وانتهت بهزيمته بعد ثلاثة أعوام وهروب بونابرت إلى باريس ليستولي على حكم فرنسا ثم باغتيال الجنرال كليبير نائبه على يدي سليمان الحلبي الفدائي ثم اعتناق قائد الحملة الأخير (مينو) للإسلام وزواجه من مصرية مسلمة وبقائه في مصر، وبعد ذلك حل الاستعمار التنصيري العنصري، وتعاقبت المواجهات وحركات المقاومة إلى أن تحررت الشعوب المسلمة، لكن ظل الاستعمار الفكري مهيمناً على جزء من النخب مسلوبة الهوية. وكان أحد غلاة الاستعمار (فكتور دو كارنيار) يكتب: "لا تخرجوا أيها المستعمرون من الحقول إلا بعد أن تستوطنوا العقول!"، ثم كما نعلم تعاقبت حركات المقاومة السلمية والمسلحة وانتصرت تقريباً، وفازت دول المسلمين باستقلالها لكنه طبعا ظل استقلالا منقوصا، لأن الاستعمار التنصيري بالفعل سكن العقول بعد مغادرة الحقول، وكانت تركيا تاريخياً المختبر الأصدق للصراع المشروع بين الأمة المحافظة على هويتها وبين الاستكبار الصليبي الذي يريدها أمة منزوعة الدسم أي الروح والعقيدة. وجاء مصطفى كمال (أتاترك) ليجهز على رمز وحدة الأمة آخر خلافة عثمانية وأتم عملية تتريك تركيا وعزلها كأمة مذيلة للغرب شكلاً ومضموناً ولغة وتقاليد، لكن تركيا حافظت على روحها الإسلامية سراً كما فعل قبل قرون المسلمون الأندلسيون ضد محاكم التفتيش والصلب والحرق إلى أن جاء زعيم تركي هو عدنان مندريس فأراد انتزاع الدستور المارق من الجيش ولكنه فشل، حيث شهدت تركيا قبل 62 عاماً، يوماً من أسوأ الأيام في تاريخ ديمقراطيتها، إذ انقلب الجيش على رئيس الوزراء، عدنان مندريس عام 1960 حين نفذ جنرالات وضباط وضعوا أياديهم على السلطة في البلاد آنذاك انقلابا عسكريا على حكومة عدنان مندريس وسيطر هؤلاء الضباط على الحكم بالقوة واعتقلوا رئيس الوزراء عدنان مندريس (1950: 1960)، ورئيس الجمهورية جلال بايار، وغالبية أعضاء "الحزب الديمقراطي" الحاكم، وكبار المسؤولين في الدولة بعد أن اتخذ مندرس عدة قرارات، أهمها رفع الحظر عن الأذان في اللغة العربية وقام بإعادة مادة التربية الدينية إلى المناهج التركية بعد حظرها بسبب حجة علمانية الدولة، وقعت أحداث واحتجاجات بين الطلاب جراء أخبار كاذبة تناقلها الإعلام. وفي صباح 27 مايو 1960 قامت مجموعة من الضباط الانقلابيين، بالانقلاب على حكومة الحزب الديمقراطي المنتخب من قبل الشعب وتم تشكيل لجنة مكونة من 38 ضابطاً أطلقت على نفسها اسم "لجنة الوحدة الوطنية" برئاسة الجنرال جمال غورسيل وألقوا القبض على مندريس وتم تنفيذ حكم الإعدام للوزيرين زورلو وبولاطقان في 16 سبتمبر 1961، فيما أعدم عدنان مندريس يوم 17 سبتمبر/ 1961 في جزيرة "ياسي أدا" في بحر مرمرة . وأتذكر شخصيا أنني في ذلك الأسبوع اقتنيت كعادتي مجلة (المصور) المصرية وعلى غلافها صورة مندريس يتدلى من حبل المشنقة ومعه عنوان كبير هو (القومية العربية انتصرت ورأت الخائن مندريس في حبل المشنقة)، وكنت يافعاً لكني تأثرت جدا بنفاق الصحافة المصرية وخداعها ومناصرتها لكل ظالم!، ويعيد انقلاب 1960 إلى أذهاننا محاولة الانقلاب الفاشلة 15 يوليو 2016 التي شهدتها تركيا والتي نفذتها مجموعة من أتباع منظمة غولن الإرهابية داخل الجيش التركي حاولوا خلالها السيطرة على أهم مؤسسات الدولة، إلا أن محاولة انقلاب 15 يوليو كانت مختلفة تماما بسبب تصدي جموع الشعب التركي لها باحتجاجات شعبية عارمة في معظم المدن والولايات التركية، وقاموا بإفشال تلك المحاولة الانقلابية وهو نصر للهوية ضد الانسلاخ.