12 نوفمبر 2025

تسجيل

مع وزير الثقافة الأسبق البشير بن سلامة في مذكراته

11 يونيو 2014

كنت ولا أزال مقتنعا بأن الصديق المثقف الوطني البشير بن سلامة هو أقدر وأفضل من خدم الثقافة التونسية والعربية وعوض أن يناله التكريم (على الأقل في عهد ما بعد الاستبداد حين كرم المرزوقي عباد الله أجمعين في قصر قرطاج!) فقد ناله النسيان، وهو أمر يسير، لأن الأشق على نفس بن سلامة ونفسي أيضا أن يرى إنجازاته كلها تلغى على أيدي النظامين السابق والراهن وبفارق النية، إذ كان بن علي محاطا في الحقل الثقافي في الغالب ببعض الجهلة والأدعياء والوصوليين والحاقدين على كل مثقف وأصبح نظام ما بعد 14 يناير 2011 بحكوماته العديدة المؤقتة لا يعبأ بالثقافة ولا بأهلها، بل الأدهى والأمرّ أن كتابا أسود صدر عن رئاسة الجمهورية حشر أغلب مثقفي تونس وأعلامها ومناراتها في كيس واحد، متهما إياهم بالتزلف للدكتاتور والتكسب والنفاق! بالإضافة إلى نغمة جديدة صرنا نسمعها من ألسنة السياسيين الجدد والمحسوبين على التكنوقراط وهي نغمة (أن لبلادنا أولويات اقتصادية وأمنية فلا مجال إذن للثقافة حتى نواجه التحديات الاستعجالية!) والغريب أن من هذه التحديات الاستعجالية المزعومة ما رأيناه الأسبوع الماضي من استقبال وزيرة السياحة وهي عضو في الحكومة لأعضاء جمعية الدفاع عن الشواذ الجنسيين التونسيين.. مطمئنة لهم ومهدئة من روعهم، مؤكدة بلا شك بأن الحكومة في خدمتهم لصون "كرامتهم" وتأمين سلوكياتهم من تعدي "المتطرفين" الرافضين للشذوذ والمثلية، أي في نظر الوزيرة "أولئك المتخلفين الذين يناهضون ما يسمى اليوم بحرية الضمير وبالنمط التونسي للتقدم الذي سنه المجاهد الأكبر!". نعود إلى موضوعنا بعد هذه التطويحة التي فرضتها الأحداث لأقول إن البشير بن سلامة وزير الثقافة في عهد محمد مزالي أواخر عهد بورقيبة واستفحال خرفه وأمراضه النفسية حينما كان الوزير مؤسس بيت الحكمة (المجمع العربي للعلم والحضارة العربية الإسلامية) والمؤسس لمشروع صندوق التنمية الثقافية والمؤسس للميثاق الثقافي والمؤسس لأكبر برنامج حكومي ومدني للنهوض بالكِتَاب (بكسر الكاف) والكُتَّاب (برفعها) هو الوزير الوحيد الذي قنن الحياة الثقافية بالقوانين لحماية أهلها ومبدعيها من الفقر والتهميش وهو أيضا الذي دشن أبواب التعاون الثقافي المغاربي والعربي والعالمي من سنة 1981 إلى 1986. هذا الرجل الوفي الذي يسكن بيتا متواضعا سدد ثمنه على أقساط في حي (اليوفي 4) المتكون من شقق بسيطة ذات ثلاث غرف ومجلس وهو وزير لم تخدعه المناصب، هذا الرجل الذي اشتهر بنوع من الاستحياء يخاله الجاهل تكبرا وهو تعفف المثقف الخالص الذي يزدري النفاق والتفسخ ويعمل في صمت المرابطين وثقة المجاهدين وهو الذي حين قام بن علي بالتغيير على رأس السلطة بدأ مسلسل الانتقام الرخيص يطاله هو وأهله كما طالنا قبله، فضربنا في أرض الله وظل هو في أرض وطنه فعلقوا به قضايا كيدية نالتنا نحن جميعا ونجا منها بعد سنوات من العذاب والإقامة الجبرية والملاحقات بمعجزة إلهية غلبت كيد البشر. وكم أنا سعيد برؤية الحق يدمغ الباطل والخير يبز الشر والعلم ينتصر على الجهل، فها هو سي البشير ينعم برضا الله وبراحة الضمير وبتقدير المثقفين الحقيقيين، بينما يرزح كل من ظلموه وظلموا بلادهم تحت عذاب المنافي المشروعة، لأنهم نفونا، والسجون المستحقة لأنهم سجنونا والهوان المخزي لأنهم أهانونا، بل ها هو البشير بن سلامة يتكلم بعد صمت مفروض ليرسم للأجيال الجديدة مسيرة حياة نذرها للثقافة الأصيلة ولإثراء عبقرية تونس. عنوان كتاب المذكرات الصادر حديثا للبشير هو (عابرة هي الأيام) بدأ فيه سرد سيرته الذاتية منذ صباه ولو كنت شخصيا ميالا إلى التغاضي عن التفاصيل في رواية الماضي ومفضلا استجلاء الحكمة والاعتبار بالعبرة من الأحداث، إلا أنني أجد المعاذير لصديقي، لأنه هو الذي عاشها في حرارتها، فجاء الكتاب ضخما تصعب عمليا مطالعته لثقل وزنه رغم خفة روح صاحبه. فالتفاصيل في متابعة أخبار المؤامرات التي أدت إلى سقوط محمد مزالي هي من الصنف المفيد تاريخيا، حيث شرح الكاتب كيف كانت أيادي الهادي البكوش ذات بصمات لا تمحى في توجيه أحداث سنة 1986 إلى الكارثة حينما تلاعب بالجنرال بن علي، لا خدمة لبن علي ولا لتونس، بل خدمة لذات نفسه، كما أكد لي الرجل الذي خبره أحمد بن صالح. فالبكوش ظاهرة غريبة في الفضاء السياسي التونسي، لكنه حين أراد الانقضاض على بن علي بدهاء بادره الجنرال الأدهى منه بالعزل ووضعه تحت المجهر من تاريخ طرده من الوزارة الأولى إلى يوم 14 يناير 2011 وقال لي شخصيا بن علي نفسه يوم 9 فبراير 2000 حين استقبلني في قصر قرطاج بحضور عبدالعزيز بن ضياء، إن الهادي البكوش كان يخطط وحده لإقصاء كل الناس من حولي (فهو الذي حكم علينا نحن المنفيين في أوروبا بالتأبيد في ندوته الصحفية بالدار المغربية يوم 13 نوفمبر 1987 بعد أسبوع من الانقلاب على بورقيبة) وللعلم فإن بن علي نطق من منفاه منذ شهر، مكذبا وزيره الأول الأسبق الذي انبرى يصرح من جديد ببطولات لم يعترف له بها رئيسه. وجاء حديث البشير عن البكوش حديثا متعمقا بمعرفة هذه الشخصية الاستثنائية ذات الطموح اللامحدود منذ أن انقلب على محمد الصياح ثم على أحمد بن صالح، ثم على الهادي نويرة ثم على محمد مزالي وأعد العدة للانقلاب على زين العابدين (من خلال تصريحات لمجلة جون أفريك تقدم فيها البكوش للرأي العام العالمي في لباس مهندس 7 نوفمبر ومن خلال مناورات سرية أخرى لا يجيدها سواه) فكان أن تغدى به زين العابدين قبل أن يتعشى به البكوش! كل هذه المغامرات قصها علينا البشير بن سلامة في لغة راقية تجمع بين الجد والهزل والشعر والنثر، أي لغة الأدب الخالص، مشحونة بمرارة المثقف الذي اصطدم بالشر والرداءة كأغلب من عملوا حول مشروع مزالي الحضاري وهو المشروع الذي كان سيدشن عهد التعددية والتأصيل في زمن انهيار الدولة، مع شيخوخة الزعيم بورقيبة وأمراضه المستعصية. ولم يكن مزالي حسب شهادة البشير مهيأ لقيادة تلك المرحلة، نظرا لشخصية الرجل وأخطائه التقديرية رغم صفاء نواياه ونظافة يديه وصدق وطنيته وقد رافقته أنا نفسي ثلث قرن مثل النخبة المخضرمة وفي مقدمتها البشير بن سلامة، حيث كنا أصحاب رسالة لا أصحاب سفالة ومن أهل الأدب لا أهل قلة الأدب، كما كان يقول لنا أحمد بن صالح زمن منفانا المشترك بحضور الشيخين الغنوشي وصالح كركر. إن الكتاب الذي أدى به البشير بن سلامة شهادته يلقي الأضواء على مرحلة مفصلية من تاريخ تونس الحديث وينير دروب الحاضر والمستقبل بتسليط الأضواء على معابر وكهوف السياسة في بلادنا.