13 نوفمبر 2025

تسجيل

القومية الأمنية

10 سبتمبر 2014

منذ بداية الدعوة إليها، حظيت الأفكار القومية بأرضية واسعة بين الجماهير العربية التي لم تجد في الطرح القومي ما يتعارض مع طموحاتها، بل وجدت فيه الإطار الذي يمكن من خلاله ترجمة الكثير من هذه الطموحات وفي مقدمتها حلم الاستقلال، والذي تم في معظم البلاد العربية بالفعل تحت شعارات قومية وبزعامة نخب قومية.وقد أضفت الأفكار القومية على أنظمة الاستقلال شرعية وحضورا وسط المجتمع الدولي، فرغم أن كثيرا من الدول العربية ظهرت إلى حيز الوجود فقط بعد حصولها على الاستقلال، إلا أن الرابطة القومية والانتماء إلى محيط عربي أوسع قد أكسب هذه الدول حديثة التكوين نوعا من الثقل والاعتراف في المجتمع الدولي.من ناحية أخرى كانت الفكرة القومية معول هدم فعالا للاستعمار ولغته وثقافته وقيمه، بل إنها مثلت الوسيلة المثلى لإحداث حالة من القطيعة مع الغرب، وهو ما أنقذ الدول التي تبنت الطرح القومي من أن تصبح مجرد ذيول لمستعمريها بعد حصولها على الاستقلال.وقد نجح الطرح القومي حينما فشل الطرح الطبقي، وازدهر حينما بدا أن الطرح الديني قد تراجع بفعل هجمة التغريب، وصمد حينما بدا أن كثيرا من الأطروحات الأيدلوجية قد فقدت بريقها في عيون معتنقيها، بل إن كثيرا من الأفكار التقليدية تدثرت بالفكرة القومية لتكتسب جواز مرور جديدا إلى الجماهير. ورغم الفرص المتاحة أمامه تعرض الطرح القومي لإخفاقات متتابعة، كان أفدحها هزيمة 1967 التي كانت من الضخامة بحيث أجهزت على كافة الأحلام والطموحات القومية، وأقنعت الشعوب أن زعاماتهم قد ضللتهم بشأن قدرتهم على مواجهة قوى الإمبريالية العالمية ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل. وباستثناء صور المساندة التي قدمتها بعض الأنظمة العربية للمجهود الحربي المصري-السوري خلال حرب أكتوبر لم تقم للأفكار القومية قائمة بعد ذلك، قبل أن يقرر الرئيس السادات دخول نفق السلام المظلم مع إسرائيل، وتلحق به أنظمة عربية كثيرة على نحو صريح تارة وضمني تارة أخرى، ليستسلم النظام العربي الرسمي بأكمله لحالة من "الحياد " مع إسرائيل، وتفقد الفكرة القومية الوقود الذي كان يعطيها زخمها وحيويتها. التراجع عن القومية العربية الواسعة جرى لصالح الفكرة القطرية الضيقة، وذلك بالتحول من قومية اللسان إلى قومية الإقليم، حيث تنشغل كل دولة بشؤونها الخاصة، وتقدم التنسيق مع الراعي الأمريكي على التنسيق مع "الأشقاء العرب"، وحتى عندما يتم هذا التنسيق الأخير فإنه يأخذ شكل الوكالة عن الراعي الأمريكي، الذي استعاض في أحيان كثيرة عن التدخل المباشر بتفويض وكلائه الإقليميين للقيام بأدوار يحددها لهم، كالوساطة في النزاعات العربية العربية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومرة أخرى ومع نشوب ثورات الربيع العربي، وانتكاس معظمها، تشهد الفكرة القومية تراجعها الثالث، حيث تقلصت من قومية الإقليم إلى قومية الأمن. ووفقا للمفهوم الجديد لم يعد كل من يقطنون بداخل البلد الواحد مؤهلين لتشكيل جسد قومي واحد، فمجرد انتماء المرء إلى نفس البلد مع آخرين لا يوفر له حق التمتع بحقوق متساوية معهم، فنطاق المفهوم الجديد يشمل فقط أولئك الذين يجمعهم هاجس الأمن، والقلق بشأن استمرار الوجود. هم من يخشون التفكك، ويفزعون من زوال الحدود، ويقتنعون بأهمية التحالف ولو مع الشيطان نفسه من أجل ضمان أمن الوطن مما يتهدده من مؤامرات الداخل والخارج.والمدهش بحق أن مقوم المفهوم الجديد (الاعتقاد بالخطر الكلي والتهديد الوشيك) هو نفس المقوم الذي تستخدمه إسرائيل منذ نشأتها كأساس للترابط الداخلي فيها، وبناء عليه لم تعد إسرائيل وفق القومية الجديدة، عدوا فعليا أو محتملا، وإنما حليف يتم التعاون معه كلما اقتضت الحاجة لمواجهة الأخطار الأمنية التي لم تعد هي (إسرائيل) منبعها بالضرورة. بل ووصل الأمر إلى حد الاشتراك معها في ديباجاتها الأمنية العدوانية، ففي مقابل مقولة "حق إسرائيل الدفاع عن نفسها"، أصبحت أنظمة القومية الأمنية تستخدم مقولات الحق في استخدام القوة المفرطة من أجل الحفاظ على بقاء الدولة. الفارق الأساسي أن إسرائيل لم تستخدم العنف ضد مواطنيها في أي مناسبة، أما في البلدان العربية ذات العقيدة القومية الجديدة فقد أصبح من العادي ليس فقط استخدام العنف ضد المواطنين وإنما دمغ قطاعات واسعة منهم بالإرهاب لمجرد رفضهم الانصياع لمنطق الهاجس الأمني. القومية الأمنية هي بكل تأكيد ردة عن مفاهيم الدولة كما نظّر لها علماء السياسة، ومسخ للمفهوم الأصلي للقومية من حيث هو رابط يجمع ولا يفرق، بل هي رجوع لحالة حرب الكل ضد الكل. ما يمكن أن ينتهي بالمجتمعات التي تتبناها إلى حالة من الفردية المطلقة التي يقف فيها الفرد ضد أخيه، ويرفع فيها الأخ في وجه أخيه السلاح وفقا لمفاهيم البقاء للأقوى الداروينية.