07 نوفمبر 2025

تسجيل

قومة الباطل... وحركة الأجسام الرخوة

10 يوليو 2012

"الباطل" اسم يطلق في الحكايات الشعبية على شخص يتمتع بقوة خارقة للطبيعة، يستطيع أن يمحو الكتابة عن العملة المعدنية إن ضغط عليها بأصابعه. وترد الحكايات الشعبية سبب هذه القوة الخارقة إلى نهر النيل، وتقول إن للنيل لحظة ينام فيها النيل فتتوقف مياه النهر عن الحركة، فإذا شرب إنسان من النيل حينها امتلك تلك القوة الخارقة. والإنسان الباطل يملك صبرا طويلا وليس من السهل إثارته، حتى يعتقد من حوله أنه فقد الإحساس ولا يؤثر فيه شيء، غير أن هذا الإنسان "الباطل" إن خرج عن صمته، يدمر كل ما يلقاه دون تمييز، يتحول من الصمت إلى الانفجار، وهذه الحالة يسمونها "قومة الباطل". وفي اللغة يبطل الشيء أي يعطله عن العمل، والباطل أيضاً هو الكذب وغير الشرعي والفاسد وضد الحق. وتبدو مرحلة ما بعد المرحلة الانتقالية في مصر أنها مرحلة "البُطلان"، لا أحد يغفل شيئا غير أنه يبطل فعل غيره ويعطل الآخرين عن الفعل. تعددت حالات البطلان ابتداء بإبطال 800 ألف مصري لأصواتهم في انتخابات الرئاسة بفعل إرادي حيث كان التصويت على مرشحين اثنين، بما يعدم الخطأ، ويصل البعض بأن هذا الرقم في حقيقته أضعاف ما أعلن! أبطلت المحكمة الدستورية قانون العزل السياسي، وأبطلت قانون انتخاب مجلس الشعب وقضت بحل المجلس، وواجه أعضاء المجلس من جماعة الإخوان والسلفيين حكم المحكمة بدعوى بطلان مضاد لقرار الحل. وقضت محكمة القضاء الإداري الأسبوع الماضي ببطلان قرار وزير العدل منح الشرطة العسكرية والمخابرات الحربية صلاحية الضبطية القضائية، وهو في حقيقته نصف إعلان للأحكام العرفية ولكن بواسطة وزير العدل. ويحتدم الحديث حول الإعلان الدستوري المكمل، حيث أبطل صلاحيات للرئيس وانتزع منه قرار الحرب السياسي وأشرك المجلس العسكري فيه، وانتزع أي سلطة للرئيس على المؤسسة العسكرية، وأضفى صفة الدوام على المجلس العسكري بأشخاصه حتى وضع الدستور وانتخاب مجلس الشعب، وكفل للمجلس العسكري حق الاعتراض على أي نص في الدستور الجديد، وأناط بالمجلس العسكري مهام التشريع وإقرار الميزانية. صراع آخر حول تشكيل مجلس الدفاع الوطني الذي أعلنه المجلس العسكري. محاولات إبطال وإبطال مضاد، هي في الحقيقة صراع على القرار، صراع سلطة، فأي قرار أيا كان مصدره، يرتبط بخط سلطة مصدر القرار ولا يتم تفعيله إلا بقدر السيطرة على أدوات إدارة وتنفيذ القرار. تنتقل صفات الأزمنة بعد الثورة من الفترة الانتقالية أو الانتقامية كما توصف في مصر، إلى مرحلة البطلان. وبمعني آخر انتقلت الحالة من حركة مطلبيه للثورة وفي مواجهتها حركة مضادة للثورة إلى حالة البطلان والبطلان المضاد بين أطراف القرار وكلاهما خارج خندق الثورة وبعيدا عن قواها الاجتماعية التي تعاني من الإنهاك نتيجة لضعف حالتها التنظيمية، وعدم امتلاك رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية للنظام الجديد الذي يحقق أهداف الثورة في "عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية" التي يجب أن يعبر عنها الدستور الجديد. تهدد حالة البطلان الجمعية التأسيسية لوضع الدستور والتي عاد استحواذ التيارات الدينية عليها، وأجل القضاء البت في أمر بطلانها إلى شهر سبتمبر وجري تقديم الجلسة إلى الثلاثاء 10 يوليو. هكذا غابت الثورة ولم يعد هناك حراك لها غير أقوال تتردد هنا أو هناك، وغابت الحالة السياسية التي تفتح أفق الحوار، وهو ما يفتح الباب للاحتكام للقضاء أو الاحتكام للقوة، وكلاهما لا يقيم استقرارا، بل يزيد الارتباك، وتظل مصر معرضة لاضطرابات ومشاهد متنوعة للصراع، والشعب خارج الحساب، فيظل التوازن مفقودا. مرحلة البطلان هي مرحلة الفساد الثاني بعد أن كان الفساد الأول قبل الثورة. هي ذات العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوحشة التي يغيب عنها الالتزام تجاه الشعب ويبقى فقط سعي أطراف صراع السلطة إلى تنمية القوة الذاتية وبأدوات تزيد العبء على المجتمع ومهام الثورة. وتضع جماعة الإخوان إستراتيجية تقويض أركان الدولة المصرية، وبمواجهات مباشرة مع الأزهر والمحكمة الدستورية والقضاء وهياكله، والصحافة، عبر محاولات استغلال أداة التشريع وبتعجل يثير الريبة، وتحت مقولة كاذبة بأن السلطة العليا للشعب بينما الحقيقة أن السلطة العليا لمكتب إرشاد جماعة الإخوان السرية. ويضاف إلى ذلك السعي إلى تحالف جديد للعناصر الرأسمالية للجماعة والمنسوبة إليها مع عناصر نظام مبارك في محاولة لخلق شكل مستحدث لتأثير الثروة على الصراع القائم. اعتقاد القوى المضادة للثورة بانتهاء الحالة الثورية أو السيطرة عليها واستخدامها، والانفراد بالدولة والسلطة، هو عامل تفكك هذا المعسكر، فالحالة الثورية لا تنقضي بوهم النفي لدى البعض، كما أنها لا تتحقق بوهم الوجود لدى البعض الآخر. الوهم في كلا الحالتين هو الدافع الرئيسي لاستمرار صراع الوجود للثورة، حتى يقضي توازن القوى بالنفي أو الوجود، وتصمت المدافع. انتقلت مصر بكافة المقاييس الاجتماعية والسياسية والتاريخية، من حالة وعي بعض القوى والأفراد، إلى حالة من الوعي الشعبي التي تمكنها من التقييم السريع للأداء وإنتاج رد الفعل، رغم البادي للعيان أن حالة من الاكتئاب والارتباك والكمون قد حلت بعناصر الثورة. الخطر ليس في الوهم أو السكون بقانون الإنسان الباطل في الحكايات الشعبية، ولكن الخطر الذي يحيق بالحالة الثورية هو حالة السيولة التي تعاني منها قواها الاجتماعية والسياسية الأساسية، واستمرار إنتاج رد الفعل بالكلام، أو الرصد، والإدانة، وعدم الإمساك بزمام المبادأة، خاصة وأن رد فعل الإنسان الباطل هو انفجار لا يبقي ولا يذر، وليس قوة فعل إيجابية تهدم ما بقي من أركان نظام الفساد الذي تجدد، وتملك قدرة ورؤية النظام الذي تنشده الثورة. قرار الرئيس المنتخب بإعادة مجلس الشعب الذي جرى حله طبقا لقرار المحكمة الدستورية بعدم دستورية قانون الانتخاب، أخرج الصراع المكتوم داخل المعسكر الواحد المضاد للثورة إلى العلن، ورغم تصريحات اللحظات الأولى لصدور القرار من أعضاء بالمجلس العسكري غير أن رد الفعل مازال مجهولا وإن ذهب البعض أنه لن يكون هناك رد فعل مباشر ولكن الصراع سيستمر، وبأدوات أخرى، وحول عناصر أخرى للسلطة والتمكن منها!! وأشارت أنباء أن مصدر القرار هو الاجتماع الأخير لمكتب إرشاد جماعة الإخوان، ومجلس شورى الجماعة؟، بمفهوم نقل الصراع مع المجلس العسكري إلى مرحلة جديدة، وأن التكتيك الجديد يجمع بين قرارات للرئيس وحشد أعضاء الجماعة في الميادين لمواجهة أي محاولة لرد الفعل. صراع سلطة لا يمكن حسابه لصالح الثورة أو الديمقراطية، ولكنه يعني حالة تحدٍ بأن القرار من حيث الدراسة والتقرير ومنهج التعامل، مصدره جماعة الإخوان بمؤسساتها المعلنة، وليس الرئيس المنتخب، وتسريب ذلك دون اكتراث بأثر ذلك على المجتمع الذي انتخب رئيسا ولم ينتخب جماعة. ولأن حالات التناطح لها صخبها كما أن لها جمهورها، فإن حالة النشوة والمناقشات القانونية وجدت للقرار مناصرين من خارج الجماعة دون إدراك أن البحث ليس حق الرئيس، ولكن البحث هو تجاوز حكم محكمة، وما وراءه من أهداف غير مباشرة تجاه القضاء والمحكمة الدستورية التي أقسم الرئيس المنتخب أمام جمعيتها العمومية اليمين الدستورية. هل الأمر توافق بين طرفي الصراع، المجلس العسكري والإخوان على القرار؟، أم أنه طور جديد تأخذ فيه الجماعة المبادأة بيدها، رغم التوافقات الأخرى بينهما؟. هو فصل جديد لإجراءات جماعة الإخوان للسيطرة على مقدرات الأمر في مصر. ولم يعد من الممكن حساب القرار في معرض تأكيد سلطة رئيس منتخب وحسب، ولكن يمكن وصفه بإستراتيجية جديدة للإخوان في الإعلان عن سيادتها على قرار الرئاسة وبالصدمة، والحشد الجماهيري، ولتأتي ردود الفعل كيفما كانت، فالواقع قد تغير، ويجب أن يدرك الآخرون هذا. ورغم ترديد تأكيدات بأن هناك اتفاقا جمع بين المجلس العسكري والإخوان حول مشروع الدستور الجديد، وأن البحث يجري حول الاختلاف على الأحكام الانتقالية، وهل تنتهي مدة الرئيس المنتخب بإقرار الدستور أو تستمر لمدة رئاسة كاملة. القرار بإلغاء حل مجلس الشعب يبدو كأقدام الأميبا الكاذبة، فالكائنات الرخوة تمد من جسدها نتوءا في اتجاه الحركة ثم تستكمل تحريك جسدها ليملأ النتوء، وهكذا بتكرار هذا الفعل تتحرك، فهل ستظل الحياة السياسية في مصر مسرحا لصراع السلطة، وتختفي الدولة المصرية الوطنية بعد الثورة، وتصبح دولة تحت حكم الأميبا وحركتها بالأقدام الكاذبة؟. الجميع مسؤول عن هذه الحالة، وبنسب متفاوتة، ولكن النصيب الأكبر من المسؤولية تقع على عاتق المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي أعلن أنه أدرك مطالب ثورة الشعب المشروعة، ولم يحاول توفير مناخ صحيح لتحقيق أي منها، وهو الذي أعلن أنه على مسافة واحدة من الجميع، ولكنه فتح الباب على مصراعيه لتستولي جماعة الإخوان على السلطة. الإخوان خارج الثورة من حيث الوجود والفعل والمضمون، ويبقى على المجلس العسكري أن يدرك، ولا أقول لأن يفسر، أن نجاحهم في الانقلاب على الثورة والدولة والاستيلاء على السلطة، لا تبرير له لدى المواطنين غير أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل بهذا وعمل له. من مرحلة اشتعال الثورة بالشعب، إلى المرحلة الانتقالية التي تحولت لمرحلة إجهاض الثورة، ثم مرحلة البطلان والبطلان المضاد وتمكين الإخوان من السلطة تحت دعاوى الديمقراطية وبمباركات من رأسمالية الفساد والإحسان في الداخل، والحلف الغربي في الخارج، تقع مصر تحت حرب نفسية حادة وموجهة بأن البديل حمامات من الدم، أي علينا أن نختار بين ما يحققونه ويسمحون به أو هو الدم والحرب الأهلية. خطاب لا يحمل من معنى غير التبرير لأنفسهم أمام الشعب، ولكن الأسباب الموضوعية التي قامت من أجلها ثورة يناير مازالت قائمة، وهي كلمة السر لاستمرار الثورة لتحقق أهدافها بقدر تنمية الظرف الذاتي للقوى صاحبة المصلحة في التغيير. كل هذا الباطل في الواقع المصري يستدعي حالة المقاومة وضرورتها، لن تخدعه حركة الأجسام الرخوة بأقدامها الكاذبة، كما أن قومة الباطل كما الحكايات الشعبية ستكون انفجارا وليست قوة فعل إيجابي.