13 نوفمبر 2025

تسجيل

الله المستعان على ما تصفون

09 يوليو 2020

عبارة خرجت من صميم قلب أب ونبي كريم، في لحظة من لحظات ليل سيكون طويلاً بالنسبة له، وهو الذي كانت نفسه تحدثه نهار اليوم نفسه، أن أمراً ما سيقع لابنه الضعيف يوسف، رغم أنه في معية إخوته الكبار في رحلة، زعموا من ذي قبل طويلاً أنها للترفيه عن أخيهم الصغير، وهم له حافظون.. لكن مشاعر وخشية الأب على الصغير لم تكن من ذئب حيوان ينفرد به ويأكله، بل من ذئاب بشرية متوحشة وإن كانوا على شكل إخوة ! جاءت اللحظة التي كان يخشاها يعقوب - عليه السلام - ودخل عليه أبناؤه الكبار في مشهد تمثيلي لا يمكن أن يمر على نبي كريم مثل يعقوب، مرور الكرام، فيصف القرآن المشهد (وجاءوا أباهم عشاءً يبكون) ومعهم قميص أخيهم الصغير يوسف وعليه بقع من دم، وصفها القرآن الكريم بالدم الكاذب. فما أن رأى يعقوب القميص وعليه بقع دم متفرقة لكنه على حاله غير ممزق، أدرك ما كان يخشاه بالنهار، وأن أبناءه الكبار فعلوا فعلتهم أخيراً في يوسف وتخلصوا منه. لكنه ما علم بالطريقة، هل قتلوه أم تركوه في صحراء قاحلة قاتلة بلا ماء ولا زاد، أم ماذا كان شكل كيدهم؟. لم يدخل في نقاشات طويلة معهم، وإن كانت بعض كتب التفسير جاءت بشيء من تفاصيل تلك الليلة - كما في معالم التنزيل للإمام البغوي يصف المشهد:" إنهم جاءوا بذئب، وقالوا: هذا الذي أكله. فقال له يعقوب: يا ذئب، أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي؟ فأنطقه الله عز وجل، فقال: تالله ما رأيت وجه ابنك قط. قال: كيف وقعت بأرض كنعان؟ قال: جئت لصلة قرابة ( فصادني هؤلاء ) فمكث يوسف في البئر ثلاثة أيام". بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً إحساس يعقوب عليه السلام المرهف، والمؤيد بالوحي، قاده إلى أن قصة الذئب غير منطقية ولا يمكن لعقل بشري أن يصدقها، فأي ذئب جائع هذا الذي يهجم على ضحيته بوداعة ولطف، بحيث لا يتأثر قميص ضحيته ولو بشيء يسير من تلف أو تمزق؟ تلك العلامة كانت كافية عند يعقوب – عليه السلام - لتكذيب رواية إخوة يوسف منذ البداية دون كثير عناء في البحث والتحليل. ولأنه غالباً يترك أي مجرم علامة تدل على جريمته، وإن كانت الجريمة مخططا لها بدقة بالغة، نجد في قصتنا هاهنا، الركاكة كانت واضحة في رواية الإخوة الكبار، وربما هي العلامة الأوضح التي تركوها لتكشفهم عند أبيهم. لقد سيطر الحسد عليهم وأعماهم حتى عن ضبط قصة الذئب مع يوسف بصورة مقبولة، إلى الدرجة أنهم بعد إكمال روايتهم لأبيهم، قالوا له ( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) دلالة على أنهم هم أنفسهم كانوا غير مقتنعين بالرواية، فكيف يريدون أباهم تصديقها ؟ وبالتالي شعر يعقوب – عليه السلام – أن القصة مختلقة دون شك، وأن أمرا سوءا قد وقع لابنه الصغير، فما كان جوابه لهم إلا أن قال بكل وضوح ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً ) أي: زينت لكم أنفسكم أمراً قبيحاً في التفريق بيني وبينه - كما جاء في تفسير السعدي - لأنه رأى من القرائن والأحوال ( ومن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه) ما دلّه على ما قال. ثم قال قولته التي صار يرددها كل مبتلى بقصة مختلقة أو نوع من الظلم يقع عليه ( فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون ) أما أنا – والحديث للنبي يعقوب عليه السلام كما في تفسير السعدي - فوظيفتي سأحرص على القيام بها، وأصبر على هذه المحنة صبراً جميلاً سالماً من السخط والتّشكّي إلى الخَلق، وأستعين بالله على ذلك، لا على حولي وقوتي، فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله ( إِنّما أشكو بثي وحُزني إِلى اللَّه ) لأن الشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر الجميل، لأن النبي إذا وعـد وفّى. هكذا ختم يعقوب - عليه السلام – مشهد أبنائه الكبار في تلك الساعات من الليل، بكلماته تلك، فيما خرجوا هم وربما في اعتقادهم بأن المسألة انتهت وتحقق لهم ما أرادوه، أو ربما تركوا أباهم في شكوكه. حيث لم تعد تلك الشكوك تهمهم بعد الآن وقد تحقق لهم مرادهم في صورة تبين لك، كيف النفس الإنسانية تتوحش إذا سيطر الحسد عليها، وصار يوجهها يمنة ويسرة. وقد كان هذا المشهد من أبلغ المشاهد التي صورها القرآن للناس وكيف هو الحسد ونتاجه والعياذ بالله. قال ربّ السجن أحب إليّ تستمر الأحداث المثيرة في القصة دون خوض تفاصيل الجب وما بعدها وتفاصيل ما حدث بقصر عزيز مصر، لنقع على أمر غريب آخر مع يوسف – عليه السلام – حيث إنه على غير عادة البشر أو الفطرة البشرية، يطلب يوسف السجن والقيد والتنازل عن حريته الشخصية عن رغبة لا رهبة، بعد أحداث القصر مع زوجة العزيز وأحداث جلسة النسوة.. يتنازل يوسف الكريم عن حريته، تلك الحرية التي ما قامت ولازالت تقوم الثورات البشرية على مدار تاريخها إلا لأن طلب الحرية هي أحد الأسباب الرئيسية لها. نعم، البحث عن الحرية قبل غيرها من حاجات البشر. ونجد في التاريخ القديم وكذلك الحديث المعاصر، كثير من أولئك الذين ساروا على نهج الأنبياء والمرسلين، من يعتبرون السجن أحب إليهم من قبول أمور - هم يرونها أقرب إلى الفتن - فالسجن بالتالي هو حماية لهم من تلك الفتن إلى أن يشاء الله أمراً كان مفعولا. والسجن كما يعرفه الجميع، نوع من الابتلاءات الشديدة التي يتعرض لها الناس، ولكن ليس كل الناس، إنما الذين يتم الزج بهم ظلماً وعدواناً، فيكون ذلك بمثابة ابتلاء شديد. وقد جاء في حديث رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم -:" إن من أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يَلونَهم، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم ". ألم يُسجن ابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية وسيد قطب وغيرهم كثير كثير؟ تعرضوا لأمور هي عند العامة عادية لا تستحق كثير تفكير وعناء في تناولها، لكنهم هم اعتبروها فتناً شديدة، وأي تنازل عن مبادئهم وقناعاتهم ستكون ذات تبعات ونتائج غير محمودة عليهم وعلى ألوف مؤلفة من أتباعهم ومحبيهم، والسجن والاعتقال بالتالي أحب إليهم من التعامل معها، ولو على حساب حريتهم وصحتهم بل وحياتهم. صار السجن إذن بالنسبة ليوسف – عليه السلام – أحب من الفتن التي رأها بأم عينه؛ مرة مع زوجة العزيز في بيتها، ثم تكررت أخرى في البيت نفسه ولكن بصورة أشد، حين دعت زوجة العزيز نساء أخريات من نفس الطبقة الارستقراطية المخملية المرفهة، المعروفة على مدار التاريخ بأن لها قوانينها ورؤاها الخاصة للأمور، إحداها ألا يقف أو يظهر أي حائل أمام رغبة أي واحدة منهن في شيء !. وحول أحداث مجلس النسوة ذاك، وما تلاه من نتائج وتبعات، لنا بقية حديث نكمله الخميس القادم بإذن الله. [email protected]