16 نوفمبر 2025

تسجيل

نبني القصور وننسى القبور

09 فبراير 2016

تأخذنا الأيام في دوامة الحياة وكأننا أوراق شجر تتطاير في عين عواصف الخريف، نركض في هذه الدنيا بلا وعي ولا إدراك بأن لنا ساعة نسقط على وجوهنا بلا حراك، لنتحول من أحياء إلى أموات، من أشخاص نتجمّل ونتأنق ونجادل ونكافح وننافح ونثرثر بل ونقاتل، إلى مجرد جثث بلا حراك،لا نتنفس ولا نتبسم في وجوه الناس، وتتيبس أيدينا وأرجلنا، فلا نصافح ولا نربت على أكتاف الضعفاء ولا نمد أيدينا إلى جيوبنا لنخرج حق الله والمحتاجين علينا بأقل مما نملك، ولا تمشي حينها أرجلنا إلى بيوت الله وبيوت أرحامنا وأهلنا وأصدقائنا، بل لا يستطيع البعض منا أن يقوم بعادة سيئة اعتاد عليها، فقد مات ابن آدم.خلال شهر واحد فقدنا الوالد والشقيق رحمة الله عليهم، وهذا أمر الله سبحانه له الحمد والمنّة، وإن كان من درس يصفعنا على الوجوه، فهي تلك الغيبوبة التي نعيشها جميعا، إلا من رحم الله بيننا، غيبوبة الأحياء الذين يسعون نحو حلم العيش وحسب، يظنون أنهم يمتلكون أمر أنفسهم حين تملّكوا أمرّ أهليهم أو بعض الناس أو أمر الرعية، ثم يأيتهم أمرّ الله في لحظة لا يدرون متى وأين، فيتحولون إلى مجرد جثث لا تنطق ولا تتحرك، فهي كالتماثيل لا تنفع ولا تضرّ، ومع هذا تستمر حياتنا بعدهم ولا نعتبر، والجميع يتمنى لو يبتلع الدنيا وما عليها وهو يعلم أنه سيموت ولا يستطيع أن يبتلع ريقه.إن من أكبر عيوبنا التي برزت في الآونة الأخيرة هي المظاهر الاحتفالية والتفاخر حتى في الموتى ومناسبات الوفاة، ولعل أبشعها تأخير دفن الميت إلى اليوم الثاني لينتشر الخبر ويتهافت الناس على المقابر والجميع يعلم أن كرامة الميت دفنه فورا، وكأن من بين أولئك البشر من يستطيع منح شفاعة للميت في قبره، حتى أصبح الموت بالنسبة للبعض أشبه بحفل زواج للأسف، ومع هذا فنحن لا نعتبر من وقوفنا على أرض المقبرة،أو النظر إلى الأب والأخ والصديق والقريب وهو يحمل على الأكتاف ثم يدلىّ إلى حفرة طولها متران وعرضها متر ونصف المتر، إنها " زنزانة الموتى" التي لا يحسب السائل والمسؤول فينا حسابا لها.في هذا المقام لا تأخذني الشجون والحزون على مصابنا بقدر ما تأخذني الأفكار عما يحدث لنا في بلدنا وبلاد العرب التي أصابها طاعون الحروب الأهلية فلم يسلم منه فقير ولا أمير ولا صالح ولا طالح، فلننظر إلى أحوالنا كيف تبدلت وأخلاقنا كيف تخلفت، وأنفسنا كيف تحولت، الجميع يسعى إلى الشهرة والكل يريد أن يصبح مسؤولا وصاحب منصب وجاه، وهذه بداية التزاحم الذي يقتل التراحم، ثم التقاتل، حتى إذا ما وقعت الفتنة وقعت الحرب، وإن وقعت الحرب فلا تسأل عن الحال فإنه شر المآل، ولنا عبرة فيمن حولنا من بلدان العرب، تشردوا وماتوا وهُدّمت بيوتهم ومصالحهم، وسوادهم الأعظم لا يدري لما قتل أو لما يقاتل حقامناسبات الموت كانت أكبر العِبرّ للناس العقلاء، ليدركوا أن الدنيا فانية لا تستحق أن يغضب منك أخ أو صديق أو رفيق أو جار من أجل فتاتها الفاني، ولكن اليوم أصبح الموت شيئا أقل من عادي، فترى الناس يضحكون ويتسامرون ويتفاخرون بالموائد التي لا يأكلها الفقراء والمحتاجون حقا، ونبخل على أسرة مدقعة الفقر ونمد الولائم في المآتم وكأنها قرابين قوم موسى، ثم لا نتذكر أن في أقرب البلاد إلينا أصبح الشعب لا يستطيع تشييع جثامين موتاهم، ومنهم من يدفن في مقابر جماعية، لأن حكامهم لم يرعوا حق الله في شعوبهم، والشعوب لم تعمل عقولها في التفكير في إصلاح أنفسها قبل الوقيعة. عن الرسول "صلى الله عليه وسلم" أنه قال:(ما من عبد يسترعيه اللَّه رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم اللَّه عليه الجنة)، وهل الجنة إلا نهاية الجزاء؟، فكيف بكل ما نراه من حكام نصبّوا أنفسهم آلهة على شعوبهم حتى أصبحوا كالفراعنة الصغار، يقتلون ويدمرون ويحرقون بلدانهم حرصا على كراسي الحكم وهم يعلمون أن الله لهم بالمرصاد، ليموتوا ويذهبوا إلى مزابل التاريخ، كيف ببعض أرباب الأسرّ وأرباب المسؤوليات والوزارات والرئاسات وهم يمتلكون أمر رعيتهم ثم يغشونهم، فجميعنا نبني القصور وننسى القبور التي كان الأصل أن نعمرها بالأعمال الصالحة وتقوى الله والأمانة في الشعوب والرعية والعائلة والعمل، وأن نتقي الله فيما نقول وما نكسب وما نسعى له... حفظكم الله جميعا