05 نوفمبر 2025

تسجيل

قراءة في كتاب تشكُّل الهوية في قطر

09 يناير 2023

صدر في الربع الأخير من عام 2022 عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، كتاب بعنوان " تشكل الهوية في قطر: دراسة تاريخية خلال الفترة ( 1868- 1913 ) " للكاتبين الدكتور محمد عبدالله الزعارير أستاذ مادة تاريخ قطر والخليج العربي كلية الآداب والعلوم جامعة قطر، والأستاذة ميسر مروان حسن سليمان المحاضرة في قسم الشؤون الدولية بجامعة قطر والباحثة في مركز دراسات الخليج. والدكتور الزعارير أصدر كتابا جديرا بالقراءة صادرا عن دار النشر آنفة الذكر تحت عنوان "المؤرخون وكتابة التاريخ في الجزيرة العربية في القرنين الثاني والثالث عشر هجري" عام 2018 وفي هذا الكتاب انفرد الدكتور الزعارير بدراسة كيف تناول مؤرخو الحجاز كتابة التاريخ في تلك الفترة كما تناول بالتحليل الجيد مؤرخي نجد وتناولهم أحداث ووقائع التاريخ في ذات الزمان وسيجد القارئ إن أمعن النظر بعناية في منهج مدرسة مؤرخي الحجاز ونجد مواقف الاختلاف والتوافق. ويذهب أستاذنا الزعارير بعيدا ويتناول بالشرح والتحليل مواقف المورخين العمانيين (الاباضية) واليمنيين (الزيدية) من كتابة التاريخ ولا جدال عندي بأن القارئ المهتم بمعرفة التاريخ في جزيرة العرب سيجد علما متأصلا وثقافة في معرفة كيف كتب التاريخ في هذه البيئة العربية الصافية عبر مناهج وطرق لم يعهدها إلا قلة قليلة من كتاب التاريخ. أعود إلى "كتاب الهوية في قطر" نجد الدكتور الزعارير وشريكته الأستاذة ميسر راحا يبحثان عن معالم الهوية القطرية على شواطئ إمارة /دولة قطر وعلى شطآن الرياض "جمع روضة" ومن خلال مرتفعات ومنخفضات كثبانه وجدّا في البحث في صفحات التاريخ القديم والمعاصر والوثائق، لعلهما يجدان ما يروي عطشهما بحثا عن الهوية. إنها محاولة لإعادة قراءة التاريخ بغية التجديد والتطوير والمضي نحو المستقبل في أبسط صورة وأعمق فكرة. وهي متسقة ومتزامنة في موضوعها وطريقة تناولها مع الاهتمام الكبير الذي توليه المؤسسات التعليمية والعلمية والإعلامية في قطر بموضوع الهوية بهدف تعزيزها وتعميقها لدى الشباب لرفدهم بمزيد من المعرفة والوعي بهويتهم العربية والإسلامية وتأصيلها في نفوسهم وتزويدهم بالمؤثرات الرئيسة التي أسهمت في تشكُّلها والمحافظة عليها عبر الزمن لتكون محفزا لهم لمواصلة مسيرة البناء والتقدم والازدهار والانفتاح على العالم وثقافاته مع التمسك بالقيم العليا التي تقوم عليها الهوية. إن فكرة البحث في موضوع الهوية في قطر عند المؤلف وشريكته أتت من خلاله تجربتهما في تدريس مقرر تاريخ قطر، ودراسات خليجية للأستاذة ميسر ووجدا عندهما دافعا قويا محركا لتوعية الشباب في العوامل ذات التأثير الكبير في تشكل الهوية وتوضيح علاقة الجغرافيا والتاريخ والإنسان والحكم في تشكل الهوية والمحافظة عليها. كما عزز اختصاص الدكتور الزعارير بالتاريخ الحديث للمنطقة وبلدانها وشغفه بتوظيف التاريخ في فهم وتحليل العوامل التي أسهمت في تشكل الهوية يتكامل ذلك مع جهد الأستاذة ميسر التي صدر لها حديثا كتاب بعنوان دراسات خليجية: مراجعة في التاريخ والدولة والمجتمع، بالاشتراك مع الدكتور محمد صالح المسفر عن دار الشرق نوفمبر 2022. لقد كان لقلة الدراسات التي تناولت دور التاريخ والجغرافيا والإنسان في تشكل الهوية دور أساسي ومحوري مُحَفّز لدراسة الموضوع خاصة وأن موضوع الهوية طُرِح بأشكال وصور عديدة ركزت في معظمها على الهوية المعاصرة من حيث كونها هوية وطنية فحسب، دون التركيز بالدراسة والتحليل على دور التاريخ والجغرافيا والحكم في تشكُّلها. وبناء على ذلك، تمثل هذه الدراسة محاولة من الباحثين للتركيز على العوامل الأكثر تأثيرا في تشكُّل الهوية والحفاظ عليها، وإبراز الدور التاريخي لمرحلة التأسيس في تعزيز الشخصية والاستقلالية والسيادة حتى أصبح هذا أحد أبرز ملامح الهوية في قطر. تكشف الدراسة عن التطورات التاريخية العميقة التي شهدتها قطر منذ ظهور الإمارة عام 1868م والتي أسهمت بشكل كبير في تبلور شخصيتها العربية والإسلامية كونها دولة حديثة وازَنَت بين الأصالة والمعاصرة والانفتاح على العالم مع المحافظة على القيم الأصيلة التي ترسخت على أيدي رجال قادوا حركة البناء على ركائز متينة تقوم على التمسك بالهوية العربية والإسلامية التي ظهرت في مواقف مؤسسي الإمارة منذ البدايات. وقد لفتت قطر أنظار العالم بالتطور الذي تشهده الآن، والذي ما كان يمكن أن يكون وفق الضوابط الحالية لولا الأسس التي وضعها الأجداد، وتمسك بها الآباء، وحافظ عليها الأبناء. هذه الركائز وتلك الأسس التي تناقلتها الأجيال الثلاثة صنعت إنجازات صارت مصدر فخر واعتزاز لأبناء البلاد، ومبعث عز وافتخار لكل عربي مسلم يتطلع إلى تجارب عربية إسلامية ناجحة في التطور والتقدم والازدهار. تكونت الدراسة من مقدمة ثم سؤال رئيس تقوم عليه الدراسة وهو "ما هي العوامل الرئيسة الثابتة والمتحركة التي أدت إلى تشكُّل الهوية في قطر قبل وخلال فترة ظهور الإمارة 1868-1913؟"، بعد ذلك تناولت الدراسة الإطار النظري للهوية والذي اشتمل على تعريف بالدراسات السابقة والتعريف بمصطلح الهوية وعناصرها ومستوياتها، ثم تتبعت الدراسة في سياق تاريخي تشكُّل الهوية العربية الإسلامية في قطر بدءا بتناول هوية المكان ضمن الامتداد الجغرافي وكيف أثر على تشكُّل الهوية العربية عبر العصور ثم عرضت تحليلا معمقا لأهمية التاريخ ودوره في تشكل الهوية، وكذلك دور النظام السياسي في تعزيزها والمحافظة عليها وتأصيلها وتحليل هذا الدور بشكل معمق اعتمادا على المواقف السياسية تجاه القضايا المتشابكة على مستوى العلاقة مع الجوار والعلاقة مع القوى الخارجية، كما تم التركيز هنا على تأصيل الهوية في نفوس الشباب من خلال عدة محاور منها؛ المؤثرات التاريخية قبل تأسيس الإمارة، دور المنطقة وأهميتها في نشر الإسلام، النظام السياسي (بدايات تشكل الإمارة السياسية)، ودور الهوية في التأثير على القرار السياسي في التعامل مع القوى الخارجية واختيار الحلفاء. كما ركزت على تحليل الإنسان (السكان) باعتباره محورا رئيسا في تشكل الهوية والتأثير العميق فيها وتم تتبع ذلك عبر العصور للكشف عن امتدادات وجوده في عمق الزمن من خلال تتبع الهجرات السكانية التي تمتد عبر العصور، والتكوين السكاني الذي استقر عليه المجتمع من خلال التركيز على مكون القبيلة، واللغة والعادات والتقاليد والثقافة. واشتملت الدراسة أيضا على سبل تعزيز الهوية وتمكين بقائها واستمراريتها وصمودها في وجه التحديات والصعاب من خلال وسائل عدة ذات تأثير كبير وهي التعليم، المساجد، الكتاتيب، القضاء، الثقافة، العادات والتقاليد، الهوية العمرانية. لقد توصل الكاتبان إلى نتائج كان من أبرزها أن مظاهر الهوية العربية وملامح تشكلها في قطر تمتد في جذور التاريخ أرضا وسكانا، كما أن الموقع الجغرافي لقطر أسهم بشكل كبير في الحفاظ على عروبة أرضها وسكانها وانتمائها الحضاري وثقافتها الإسلامية عبر التاريخ، ونفسه الموقع جعل من أرضها مستقرا آمنا للقبائل التي اتجهت لتأسيس تكوينات سياسية في سواحل الخليج، وله كان الأثر الكبير في مرحلة الصراع والتنافس بين البريطانيين والعثمانيين والذي أدى إلى أن تأخذ قطر طريقها نحو الابتعاد عن القوتين المتنافستين على المنطقة وتنحو نحو الاستقلال. كما كانت الروابط العميقة والمتينة التي جمعت بين القبائل القطرية هي إحدى السمات الرئيسة المتعلقة بهوية المجتمع القطري والانسجام والتماسك الذي كان ولا يزال سائدا بين أفراد المجتمع القطري ومثَّل في الماضي كما هو اليوم سدا منيعا أمام أية أخطار خارجية وكشفت الدراسة عن الحاجة الملحة والمتجددة لإعادة قراءة الأحداث التاريخية وتحليلها بما يعزز قيم الهوية العربية والإسلامية، وضرورة الاعتماد على المنظور التاريخي في تطوير وبناء وصياغة البراهين الفكرية والتصورات بشكل واضح ودقيق ومناسب بما يخدم نشر الوعي بين الشباب بالعوامل والجذور المتعلقة بذلك. كما أكدت الدراسة على الدور الذي حققته أسرة آل ثاني في تعزيز الاستقلالية والسيادة في قطر من خلال مواقف سياسية وعلاقات متوازنة مع قوى الجوار والقوى الدولية الخارجية المتمركزة في المنطقة، وجعلت موضوع السيادة والاستقلالية أحد السمات الرئيسة لهوية قطر منذ نشأة الإمارة وحتى الآن.