14 نوفمبر 2025

تسجيل

زيارة القدس تحت الاحتلال.. هل هي كما قال الهباش؟

08 مارس 2012

في معرض دفاعهم عن الدعوة التي وجهها الرئيس الفلسطيني – محمود عباس – للعرب ليزوروا القدس والتي رفضها العلماء، أفتى مجموعة من علماء السلطة في رام الله على رأسهم وزير أوقافها – محمود الهباش – بوجوب هذه الزيارات واعتبارها " فريضة شرعية وضرورة سياسية " وشنوا في سياق ذلك حملة على رئيس " الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين " العلامة الدكتور القرضاوي والعلماء الذين رفضوا هذه الدعوة وحذروا من التعاطي معها.. الوزير الهباش والذين ناصروه ساقوا لفتواهم ثلاثة استدلالات ؛ الأول: أنه لا حرج من استصدار تأشيرات الزيارة من سفارات العدو في البلاد التي له فيها سفارات قياسا على دخول النبي صلى الله عليه وسلم في " جوار " المطعم بن عدي – الكافر - عندما أراد دخول مكة بعد عودته من الطائف، وقالوا: إن نظام " الجوار " إذ ذاك كان بمثابة التأشيرات هذه الأيام، وعليه فلا بأس أن يأتي الناس إلى فلسطين المحتلة بتأشيرات (إسرائيلية)، الاستدلال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في السنة السابعة للهجرة من أجل العمرة والطواف بالبيت فيما كانت مكة تحت حكم الكافرين.. قالوا: وهل القدس تحت الاحتلال إلا كمكة تحت حكم قريش؟ الاستدلال الثالث: الحديث الوارد في فضل فلسطين والمسجد الأقصى عن ميمونة بنت سعد – رضي الله عنها - قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: "هُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْمَنْشَرِ، ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّ صَلاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلاةٍ "، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: "مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْتِيَهُ فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيْهِ زَيْتًا كَانَ كَمَنْ قَدْ أَتَاه. ".. الهباش قال: "وهذا الأمر النبوي كان حال حكم الرومان لفلسطين وللقدس وهو يشبه حالها اليوم تحت حكم اليهود ".. وأقول: أولا: لا بد من تقرير حقيقتين تكشفان عن دوافع الفتوى قبل أن أعيد توجيه ما استدل به ؛ الحقيقة الأولى: أن وزير السلطة هذا سبق أن أطلق ذات الفتوى تأييدا لفتوى وزير أوقاف النظام المصري الساقط – محمود الزقزوق - التي دعا فيها علماء الأمة الإسلامية للقيام بزيارة القدس وساق نفس الحجج، لكن تلك الفتوى طارت أدراج الرياح وماتت في مهدها لأنها صدرت عن وزير في نظام مفضوح بعمالته للعدو، ولأن العدو أبدى يومها استعداده لمنح التأشيرات فظهر كداعم للفكرة.. الحقيقة الثانية: أن شخصية هذا الوزير - الهباش – هي شخصية إشكالية انفعالية توتيرية وله سلوك متواصل في ذلك، فهو خطيب الجمعة الرسمي في مسجد التشريفات برام الله ولا تكاد تخلو خطبة من خطبه أمام الرئيس من التحريض على الدماء وتجريح المقاومة والقدح فيها.. حتى إنه أفتى ذات مرة بقتل كل من يخرج على ولاية السيد عباس لأنه – في نظره – إمام الفلسطينيين، ثم راح يطبق فتواه على حماس وأنصارها تحديدا فيما فهم استباحة لدماء مئات الآلاف من الناس.. والمبرر مجرد أنهم يختلفون سياسيا مع عباس!! فالوزير الهباش – إذن - في هذه المرة عما قبلها إنما يفتي لا كعالم دين وإن تقنص لها بعض الشبهات.. وإنما كسياسي إشكالي تابع لمنظومة فكرية وسياسية إشكالية أيضا.. ثانيا: زيارة المسجد الأقصى تحت الاحتلال لا تعني نصرة المقدسيين والالتفاف على محاولات العدو لتهويدها فقط ؛ وإنما تعني مع ذلك التطبيع مع الكيان الصهيوني وتفكيك وتسليم آخر أسلحة الأمة وهو المقاطعة.. فالذهاب إلى السفارات لاستصدار تأشيرات وانتظار قبولها والوقوف في طوابير أمامها.. هذا الأمر في حد ذاته هو اعتراف بها واحترام لها.. والسؤال: إذا كان الأصل الذي لا خلاف عليه بالنسبة لهذه السفارات هو وجوب رفضها ومقاطعتها وقلعها فهل يجوز الوقوف في طوابير أمامها واحترامها؟ وهل المسألة عمياء إلى هذا الحد؟ وهل علينا أن ننتظر حتى نرى عشرات السفارات ومئات القنصليات الصهيونية تفتح في كل بلد وكل مدينة وكل قرية وكل شارع وحتى نستوعب ميزان الترجيح بين المصالح والمفاسد؟ وإذا حدث ذلك فهل يبقى أمام المتهافتين والخائنين الذين يريدون المشاركة في جلسات الكنيست ومؤتمرات الصهيونية ومحاضرات الجامعة العبرية وزيارة كازينوهات تل أبيب ونتانيا والتردد على مرابض المخابرات الصهيونية في القدس وإسدود وعسقلان.. هل يبقى أمامهم أكثر من أن يزعم أحدهم أنه يريد نصرة القدس وأنه يتقيد بفتوى الهباش لينال ما يريد ويضحك على ذقون الساذجين؟ ثالثا: وأما استدلاله بدخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جوار المطعم بن عدي – الكافر – ودعوى أن ذلك يشبه استصدار التأشيرات من سفارات العدو ؛ فالرد عليه من وجوه ؛ 1- أن الجوار ليس كاستصدار التأشيرات في ضرره ومخاطره كما أوضحنا، 2- النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخل في جوار المطعم بن عدي المعروف برجولته وكرمه وشرفه ونصرته للحق وقد سبق أن كان أحد الذين أعانوا على تمزيق صحيفة المقاطعة التي كتبتها قريش لحصار المسلمين.. دخل صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم ولم يدخل في جوار أبي جهل أو أبي لهب أو أمية بن خلف الفاسدين الطوية الشديدين الكراهية للإسلام.. فهل الاحتلال اليوم كالمطعم بن عدي أم كأبي جهل؟ 3- النبي صلى الله عليه وسلم كان في حكم المضطر يوم أراد دخول مكة وإنما أراد دخول بيته وسكنه والرجوع إلى قومه الذين لا ملجأ له سواهم بعد أن حظرت عليه الطائف وأوذي فيها.. فهل الزيارات التي يتحدث عنها علماء السلطة تقاس على هذه الزيارة أو تحمل نفس القيمة الاضطرارية؟ وعلى فرض أنها تحمل تلك القيمة وفرض أن العدو سيسمح بها في كل وقت ؛ فهل لا تسد الضرورة فيها إلا من خلال رعايا الدول العربية؟ أليس يمكن أن يقضي هذه الضرورة مسلمون وعرب من رعايا دول أجنبية غير عربية وغير إسلامية دون أن نخسر المقاطعة ومميزاتها؟ - وعلى فكرة – هذا ما أفتى به القرضاوي والشيخ رائد صلاح وتردد على ألسن علماء فلسطين وروابطهم وهيئاتهم ممن هم الأصدق حماسة لحماية الأقصى والأشد عزيمة على لجم العدو ومحاصرته. رابعا: وأما استدلاله بدخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة للعمرة وهي تحت حكم الكافرين.. وأنه يقاس عليه دخول القدس تحت حكم الاحتلال.. فأقل ما يقال في ذلك: إنه كان دخول عنوة وقوة من غير تطبيع ولا خضوع.. فالمسلمون يومها حملوا السلاح في أغماده استعدادا للحرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أكره قريش على القبول بذلك في صلح الحديبية قبل ذلك بسنة، ولنتذكر أن كفار مكة أخلوها له عندما دخلها هو والمسلمون ثلاثة أيام.. السؤال: هل الهباش ومن لف لفه من علماء السلطان على استعداد لأن يقودوا أو على الأقل لأن يشاركوا في دخول للقدس على هذا النسق وبهذه العنوة والسلاح ؛ أم هو يتصيد الشبهات ويلهث وراء الفتات ويلجأ للمماحكات؟ خامسا: وأما حديث ميمونة فالرد على الاستدلال به من وجوه: 1- الحديث ضعيف من حيث السند - وليس الموضع لتفصيل ذلك – فلا يستشهد به على قضية أصلية كبيرة تكاد تكون موضع إجماع بين علماء المسلمين عبر عشرات السنين وهذه موازنة معروفة حتى لطلاب السنة الأولى في كليات الشريعة، 2- وعلى فرض أن الحديث صحيح فإن المسلمين لم يكونوا في حالة مقاطعة لدولة الروم وإنما كانت رحلاتهم رائحة غادية منها وإليها (رحلة الشتاء والصيف)، 3- لم تكن تلك الزيارات المحثوث عليها في هذا الحديث تعني أكثر من اللفت إلى فضل المسجد الأقصى توجيه الأنظار لفتحه دون أن يعني ذلك القبول بحكم الرومان له، 4- كما قلنا في مسألة دخول مكة للطواف نقول هنا إن سلوكه صلى الله عليه وسلم مع الرومان الذين يحكمون فلسطين كان الاستعلاء عليهم من خلال رسائل الدعوة والتهديد والندية ومن خلال الغزو والقتال (مؤتة وتبوك وجيش أسامة) وليس من خلال التلطي تحت نوافذهم واستجداء بطاقات الـ" في آي بي " منهم.. فأي قياس بين هذا وذاك؟ آخر القول: إن صحت النيات وكان المقصود نصرة القدس فالطريق إلى ذلك أوضح من أن نختلف عليه.. وأرجو ألا تكون إثارة الخلاف حول تحريم زيارة القدس وهي تحت الاحتلال بهدف تعريض هذه القضية الثوابتية للهز والأخذ والرد، ولا لفتح باب التطبيع، ولا للتستر وراءها لمداراة الضعف والعجز والتقصير في نصر القدس، ولا لإسقاط قيمة علماء الأمة..