06 نوفمبر 2025

تسجيل

السور

08 مارس 2011

ليس هناك أثمن من أن يعيش الإنسان حرا، ويشهد التاريخ كله بأن كل تلك الصراعات والحروب التي خاضها الإنسان، والدمار، والمقابر الكثيرة التي امتلأت على مر القرون، كانت ثمنا غاليا دفعه الإنسان من أجل الحرية. ولا يزال في العالم إلى يومنا هذا من شعوب وأفراد من يكافح ويصارع من أجل أن ينال حريته. فالإنسان يولد حرا، ثم يصبح البحث عن استقلاليته هو الشعور الفطري الذي يولد معه، فنرى الطفل وهو في أصغر مراحل عمره يرفض أي نوع من القيود ويسعى لحريته. ويمكننا أن نختصر كل معاني الحرية في أنها الكلمة التي تساوي الحياة. وهي ما يشعر معها المرء بإنسانيته وقوته. ومن أصغر المتاحف التي زرتها يوما، ورأيتها تجسد صراع الإنسان من أجل الحرية هو متحف (شك بوينت شارلي) في العاصمة الألمانية برلين. هذه العاصمة التي كانت يوما مسرحا شهد أشكالا من المعاناة الإنسانية، وقسوة الآلة العسكرية وقوتها. فهذا المتحف يقع في نفس المعبر الوحيد للمشاة والسيارات بين برلين الشرقية وبرلين الغربية، وقد كان أفضل مكان لأمن الحدود في العالم آنذاك، والذي شهد بناء سور برلين الشهير في عام 1961، وهو الجدار الطويل الذي يفصل بين برلين الشرقية وحليفتها السوفييت وبرلين الغربية وحلفائها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد شيّد هذا السور للسيطرة على انتقال المواطنين المتزايد من الشطر الشرقي إلى الشطر الغربي، وكان من المستحيل مراقبة الحدود حيث إنها تمر وسط أحياء المدينة، فكان بناء السور هو الحل الوحيد لمنع الهجرة خصوصاً من الفئة المتعلمة والذي أصبح يهدد كيان الدولة. وقد فصل هذا السور اللعين بين الجيران وأهالي الحي الواحد، ماراً بين البيوت المتلاصقة، فكانوا يلوحون لبعضهم البعض في مسافة لا تتعدى الأمتار المعدودة والتي تفصل بين القيود والعذاب وسوء الحظ، وبين الحياة والحرية. فقد كان هذا السور المقيت هو ممر الموت المحتم، ورمزاً لغياب الحرية عند الألمان الشرقيين. ومما أثار إعجابي لهذا المتحف الصغير جداً، أنه يعرض كل ما يشهد على صدق الأحداث وسخونتها من وثائق وأوراق رسمية، وصور عديدة لتاريخ المنطقة في تلك الفترة. كما يعرض أشكال الهروب وأساليبه التي تثير الدهشة، والتي لجأ إليها الناس للخلاص. وصور متعددة تفنن فيها العقل البشري للتفكير في ابتكار الطرق لكيفية اجتياز هذا السور والفرار، ليختار أن يكون مصيره النهائي إما الموت وإما الحرية. وما يدعو للأسف أن ذلك السور، وكل تلك القيود وكل أولئك الضحايا والألم، إنما كان بقرارات من إنسان ضد أخيه الإنسان!! ما أسهلها على من صدرت منه وما أصعبها على من طبقت عليه. وبعد كل تلك السنوات من المعاناة وعندما هدم سور برلين في العام 1989 وكل هذه السعادة، وانتهاء القيود والحرية،كانت أيضا بقرارات من إنسان نحو أخيه الإنسان!! وبعد انتهاء زيارتي لهذا المتحف، فمع ما أضفته لنفسي من متعة ومعرفة لهذا المكان وتاريخه، وأيضاً مع أولى خطواتي خارجة، شعرت حقيقة بأنني أستطيع أن أتنفس الحرية بعمق، أشم رائحتها وأتذوقها، وأعيشها بفخر وسعادة، ورأيتها تتجسد أمامي في أبهى حلة وصورة، وشعرت أن في داخلي صوتا يريد أن يصرخ بأعلاه في الفضاء (ما أثمن الحرية). وحقاً ما أثمن من الحرية. وما أثمن ان ينتمي الإنسان لشعب ووطن حر. يقول أحد الأمثال الانجليزية (لو أنك فقدت كل شيء ما عدا الحرية.. فأنت لا تزال غنياً) [email protected]