07 نوفمبر 2025
تسجيلويعمل "صادقا" من أجل تحقيقها وباطنيا من أجل إغلاق باب الشك أو الطعن فيها أو حتى مناقشتها من قبل فريق مخالف أو صاحب رأي مختلف. إنه الخطر القادم الذي يهدد جوهر حركات الإصلاح التي أنجزها شباب عربي هنا وهناك دون قيادات ودون أحزاب ودون معارضات رسمية حين هب هذا الشباب يرفض منطق الخطوط الحمراء التي وضعها الطغاة كعلامات على الطريق مثلما تنتصب الإشارات الضوئية الحمراء في مفترق الشوارع لتنظم حركة المرور في المدن. ولنمض معا في المقارنة بين حركة المرور وحركة الإصلاح ما دامتا تشتركان في وجود إشارات حمراء (أو خطوط حمراء). في الشوارع ولتيسير حركة السيارات والمشاة على الأقدام تم الاتفاق (سياسيا اسمه الوفاق) على وضع ثلاثة أنواع من الأضواء: الأحمر والبرتقالي والأخضر. فاهتدى بها وتعود عليها الناس (سياسيا المواطنون) وأصبحوا يقفون ويفرملون إذا أضاء الأحمر ويحاذرون ويحتاطون إذا أضاء البرتقالي ويمرون بسلام إذا ما أضاء الأخضر إما امتثالا للقانون أو خوفا من عقاب الشرطة المتربصة بكل مخالف وإما خشية الإصابة بمكروه. ومضى هذا النظام (المروري وليس السياسي) ليتعود عليه الناس ويحترموه احتراما صارما لأنه يحميهم هم أولا ويحمي الناس منهم ويمنع التهور ويوصد باب الفوضى ويسد ثغرات الغرائز والأنانية والظلم. ومما يبعث على الخوف هو أننا لاحظنا تفشي ظاهرة عدم الامتثال للإشارات في شوارع تونس ومصر واليمن وليبيا بشكل مخيف حقا لأنك إذا وقفت في سيارتك أمام ضوء أحمر فإن السيارات التي وراءك سوف تنتفض عليك انتفاضة جماعية عصماء وتصم أذنيك بالمزامير المدوية والصراخ وأحيانا السب والشتم لتحرضك على التحرك وتحدي الإشارات وأنا وقعت لي مثل هذه الحالات مرارا لا تحصى بعد 14 يناير- في تونس لمجرد امتثالي للإشارة الحمراء فقال لي أحد السائقين: "تحرك يا سيد ألم تدرك أننا في ثورة؟ ألا تعلم بأننا اليوم أحرار؟". وهو موقف صعب حقا لمن انضبط وتعلم في تونس ذاتها وفي عواصم أوروبا كيف لا يناقش حين تضاء الإشارة الحمراء وإلا فإن (كاميرا المراقبة) سوف تأخذ له صورة فورية لتأكيد الدليل على المخالفة وسيقع حجز رخصة سياقته والتخفيض من نقاطها وإجبار السائق على إعادة امتحان رخصة السياقة وتغريمه بدفع 500 يورو وفي حالة التسبب في إصابة بريء فإن الحكم بالسجن لا مفر منه. هذا في قانون المرور أما في قانون السياسة فأعتقد أن الأمر أشد خطرا وأعمق أثرا لأن الرافضين للإشارات الحمراء تكاثروا بالتدافع في كل بلدان الربيع مهددين شعوبهم بتحويله إلى خريف لا قدر الله. فلغة الخطاب والحوار السياسية التي كانت حضارية ومتعففة تهاوت بفضل "تضافر الجهود" إلى السوقية والابتذال ساعد على ذلك استعمال وسائل الاتصال الاجتماعي التي تسمح بالتخفي وراء الأسماء المستعارة والشعارات الجوفاء وقول أي كلام في أي خصم مع فبركة الوثائق المدلسة والبيانات المزيفة والتنادي إلى تحركات تظاهرية واحتجاجية يعين مجهولون مواعيدها ويحددون أهدافها ويراقبون عن بعد انفجارها في مأمن أمين من محاسبة القانون أو تعزير الضمير أو تحمل تبعاتها. (هؤلاء المجهولون اتفق الجميع على نعتهم بالأيادي الخفية!). وفي هذا المناخ غير السليم نبتت الشجرة الملعونة التي لا يباركها الله كما بارك الزيتونة فتكاثرت الخطوط الحمراء ولكل قوم يافطة يرفعونها كتب عليها "هذا خطنا الأحمر" وبالطبع لا نقاش فيه ولا حتى سماع رأي مخالف ولا مكان لخط برتقالي أو أخضر أي خطوط السلامة والديمقراطية والوفاق! فمن شعار (مجلة الأحوال الشخصية خط أحمر) إلى شعار (تطبيق الشريعة خط أحمر) في تونس إلى القاهرة حيث نقرأ (الدولة العلمانية خط أحمر) مقابل (الدولة الإسلامية خط أحمر) إلى ليبيا حيث اليافطة تقول (نظام مدني بلا قبائل خط أحمر) تجاه يافطة تقول (زنتان أولا والعشيرة خط أحمر) إلى اليمن حيث نقرأ ونسمع شعار (سلامة علي عبدالله صالح خط أحمر) أمام لافتة تقول (لا مناعة لعلي وأولاده وتطبيق أهداف الثورة خط أحمر) وطبعا فسورية على الطريق.. طريق الخطوط الحمراء. إنه تدشين عهد جديد من حوار الصم والطرشان مع فقدان البوصلة والقابلية للتدخل الأجنبي وعودة أشباح الاستبداد بأشكال مختلفة وتحت شعارات جديدة متأقلمة مع الجو. اللهم رحمتك ولطفك.