06 نوفمبر 2025
تسجيل"إني لا أعلم شجرة أطول عمراً ولا أطيب ثمراً ولا أقرب مجتنى من كتاب". لم يكن قول الأديب العربي الجاحظ مجرد إطناب، بل جاء يحاكي واقعاً عايشه بين كتب لازمها وأعلام أخذ العلم عنهم في زمانه. يأتي كتاب "خزانة الكتب الجميلة: كيف نقرأ ولماذا؟" القصير يترجم شيئاً من ذاك المعنى، وهو يضم بين دفتيه مجموعة من المقالات تتناول بالبحث والتحليل عدد من الأدباء العالميين، فتعرض جانباً من سيرهم الذاتية بما فيها من أخبار عن أشهر مؤلفاتهم، عاداتهم اليومية، أساليبهم الأدبية، طقوس كتاباتهم، ظروف إبداعاتهم، الكتّاب الذين تأثّروا بهم، الكتّاب الذين أثّروا فيهم، الأثر الذي أحدثوه على الساحة الأدبية، النقد الذي لحق بإصداراتهم، وغيرها الكثير من أمور، إضافة إلى ما توصي به من كتب وروايات متنوعة تم تصنيفها ضمن الأعمال العالمية الخالدة. وعن مراجعة الكتاب، فتعتمد على الطبعة الأولى الصادرة منه عام 2018 عن (دار كلمات للنشر والتوزيع)، والذي قام باختيار مقالاته وعني بترجمتها (أحمد الزناتي)، وهو مترجم مصري عمل على ترجمة عدد من الأعمال الإنجليزية والألمانية إلى اللغة العربية، إضافة إلى إصداراته الروائية، وقد حصل على عدد من الجوائز الأدبية. ومن جميل ما حملت خزانة الكتب الجميلة، أعرض ما يلي وبما يخدم النص من اقتباسات (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): يختار المترجم ابتداءً الحديث عن الكاتب الأرجنتيني الأصل الكندي الجنسية (ألبرتو مانغويل)، الشغوف أبداً بعالم الأدب والمأخوذ بسحر الكتب.. يجمعها، يقرؤها، يحدّث عنها. فبينما يتأثر في طفولته بقصة (أليس في بلاد العجائب)، يرافقه في شبابه كتاب (التخيلات) لأستاذه لويس بورخيس، حتى يعترف وهو على مشارف السبعين أن (الكوميديا الإلهية) لدانتي هو "الكتاب الجامع" الذي لا يضاهي "عمقه واتساعه وحذاقة مبناه" أي إنتاج أدبي آخر. وهو إذ يتوّج كوميديا دانتي على رأس كل ما قرأ، يخصص المترجم لكتابه (الفضول) نصيب الأسد في مقالة (آلبرتو مانجويل: قراءة في فصول الفضول)، إذ أن مانغويل في تأثره بالكوميديا، أعاد قراءتها بغية فهمها من منظور آخر يعينه على فهم العالم بدرجة أكثر عمقاً، الإعادة التي شكّلت وعياً جديداً بداخله.. فبينما يرحل دانتي نحو الفردوس مستهّلاً بالجحيم متبوعاً بالمطهر، يرحل مانغويل نحو ذاته.. حياته، ذكرياته، فلسفته، وأسئلته الفضولية التي لا تقف عند حد! يختم المترجم المقالة بتحليل شامل يلخّص مسيرة الأديب وعصارة خبرته، في عبارات يسيرة، فيقول: "ترسو مراكب مانجويل بعد رحلته الطويلة على ميناء أخير هو الأدب، فالأدب هو الإجابة النهائية عن كل شيء، ولكنه في الوقت ذاته، الإجابة التي لا تقول الكلمة الأخيرة، بل الإجابة التي تفتح بوابات الأسئلة من جديد في دائرة مغلقة لا تنتهي، فالعالم يمنحنا القرائن التي تسمح لنا بإدراكه، فنرتبها في متوالية سردية تبدو بالنسبة إلينا حقيقية أكثر من الأصل، ونواصل طريقنا مدفوعين بمزيد من الفضول والشغف للحقيقة في رحلة لا تنتهي". ومع فيض الشغف والفضول والحقيقة، يتبلور العالم في نظره إلى تدفق مستمر وعطاء لا ينضب، يقول المترجم فيه: "إنّ العالم موجود من كتاب، وإننا عبارات أو كلمات من حروف كتاب سحري، وإن ذلك الكتاب اللانهائي هو الموجود بحق في هذا العالم، بل هو العالم". إن القوة تضاهي الموهبة في صنع كاتب رائد! هكذا كان يعتقد الروائي الأمريكي (جون شتاينبك) الحاصل على جائزة نوبل للأدب. لم تكن القوة التي قصدها سوى: الكتابة العظيمة.. الصعود والهبوط.. الجرأة في كتابة الكلمة الأولى.. الرموز المعبّرة بدل الكلمات.. الصلاة عند امتناع الكتابة! لذا، يجد المترجم نفسه مدفوعاً للاقتباس من كتابه (مذكرات رواية)، الذي عرض فيه مجموعة رسائل خطّها لصديقه الناقد والمحرر في دار فايكنج للنشر، وهو يبثّه يوميات عكوفه على تسويد روايته (شرق عدن)، والتي على ما يبدو لم تكن بالأمر الهيّن، حيث انتابته أوقات شعر فيها بقلة الحيلة، وتمنى لو صلى الناس من أجله ومن أجل إتمامها. ينقل المترجم طرفاً من تلك الرسائل في (سجلات عدن: يوميات جون شتاينبك)، وهو يطري الكتابة رغم غموض عالمها: "لا أنكر أنني أعاني دائماً من خوف كتابة السطر الأول من الرواية، لكن أتعلَم شيئاً؟ كم هو رائع ذلك الخوف والسحر والبريق الذي يمس روح الكاتب حيث يضع السطر الأول فوق الورقة، آه.. الكتابة ذلك العمل الغريب الغامض". وعن المهارات التي يجب أن يتقنها كل روائي يطمح للريادة، يقول: "مهمة الروائي أن يصعد ويهبط، أن يوسّع رئة أفكاره، أن يشجع نفسه على الاستمرار في الكتابة". وعن سر اللحظة التي يتدفق فيها الإلهام، يقول: "في اللحظة التي تخترق فيها روح الكتاب عظامك، ستكون قادراً على مواصلة الكتابة، وعندها ستأتي الحبكة وحدها دونما عناء". وبدوري أقول: إن القراءة فعل خشوع، والكتابة عمل إلهامي.. فبعمق ما يستنشق القارئ روح كل كتاب بعد آخر، تأتي الزفرات عبقة بكل ما ضخّت تلك الكتب في روحه من حياة!.