17 نوفمبر 2025
تسجيلفي قصةٍ للكاتبِ التركيِّ الفذِّ عزيز نِيسين، يتحدثُ عن رجلٍ بسيطٍ، طيبِ القلبِ، ذي شخصيةٍ ضعيفةٍ جعلتْ زوجتَهُ وأبناءهُ وبناته يستأسدونَ عليه، حتى صارَ هدفاً لسخريةِ جيرانِـهِ ومعارفِـهِ. ثم أُلقيَ القَبْضُ عليه، خطأً، لتشابُهِ ملامحِـهِ مع ملامحِ قاتلٍ رَوَّعَ البلادَ بجرائمِـهِ. وأثناءَ خضوعِـهِ للتحقيقِ، انتشرتِ في بلدتِـهِ الشائعاتُ عن شخصيتِـهِ الإجراميةِ التي كان يُخفيها تحتَ ستارٍ من الطِّيبةِ والتواضعِ، فسرى الخوفُ منه في قلوبِ الناسِ. وحتى زوجتَهُ، خافتْ منه فأخذتْ تروي عنه أموراً تُؤكِّـدُ تلك الشائعاتِ. ولَـمَّا أُطْلِـقَ سراحُهُ بعدما تَبَيَّنَ للمُحققينَ أنَّهُ بريءٌ، ظلَّ الجميعُ، ومنهم زوجتُهُ وأبناؤهُ وبناتُهُ، خائفينَ منه. فشعرَ بأنَّ شخصيتَهُ الجديدةَ كمجرمٍ تمنحُهُ مَهابةً وسطوةً، وأخذَ يَتَقَمَّصُ، ظاهرياً، كلَّ ما يُعَـزِّزُها في أذهانِ الناسِ، كالغضبِ الـمُوحي بالشرِّ والأذى، والعبوسِ الـمُنْذِرِ بالثورةِ التي لا تُبقيَ و لا تَـذَر.تقمُّصُ الشخصيةِ، في حالاتِـهِ غيرِ الـمصحوبةِ باضطرابٍ وخَللٍ في الإدراكِ العقليِّ، أمرٌ شائعٌ في مرحلةِ الـمراهقةِ حين يتقمصُ بعضُ الـمِراهقينَ صفاتٍ مَظهريةً في لباسِهِم، وقَصَّاتِ شعورِهِم، وطُرُقِ حديثِـهِم تَشَبُّهاً باللاعبين والـمُغنين الـمشهورين. وتقومُ بعضُ الـمراهقاتِ بالتَّشَبُّـهِ بالـممثلاتِ والـمُغنياتِ الـمشهوراتِ في لباسِهِـنَّ وأساليبِ حديثِهِنَّ. وهذا، كُلُّهُ، جانبٌ مفهومٌ بحُكمِ السِّنِّ، والخبرةِ الحياتيةِ البسيطةِ لهم. لكنَّ بعضَ الآباءِ والأُمهاتِ لا يدركونَ أنَّ لأبنائِهِم شخصياتٍ مستقلةً ينبغي احترامُها وتنميتُها، بحيثُ يكونونَ قادرينَ على الإبداعِ والتجديدِ في حياتِهم الـمُستقبليةِ، وأنَّ جانباً من التَّعاملِ معهم يكونُ بتَفَهُّمِ الـميلِ الطبيعيِّ للتقمصِ في نفوسِهِم، فنجدُ الأبوينِ، أو أحدهما، يأخذانِ بالسخريةِ منهم وإيذائِهِم نفسياً، بل إنَّهُما قد يصلانِ إلى العنفِ البدنيِّ الـمُفرطِ في شدتِـهِ أحياناً. وتكون النتيجةُ أنَّ الأبناءَ يقومونَ، بهدفِ الدفاعِ عن ذواتِهِم، إما بتقمُّصِ شخصيةِ الابنِ الـمطيعِ كلياً، أو شخصيةِ الـمُتَنَـمِّرِ العنيفِ. فعندما يُظْهِـرُ الابنُ لأبويه الطاعةَ الكُليةَ ويُنَـفِّذُ أوامرَهُما وتوجيهاتِهِما حرفياً دون أيَّـةِ اعتراضاتٍ، فهذا يعني أنَّـهُ أصبحَ ذا شخصيةٍ انعزاليةٍ انهزاميةٍ لا يمكنُهُ بها مواجهةَ الحياةِ إلا إذا كانَ مأموراً وتابعاً لآخرينَ ذوي شخصياتٍ قياديةٍ قويةٍ. وتبدأ بالظهورِ، في سلوكِـهِ، بذورُ الـمَيلِ للتآمُرِ، والكذبِ، والقيامِ بالتخريبِ ثم اتِّهامٍ الآخرينَ. أما عندما يَتَـنَـمَّرُ فيُبدي الرَّفْضَ لإطاعةِ الأبوينِ من خلالِ التعبيرِ اللفظيِّ، أو بملامحِ وجهِـهِ الساخرةِ أوالغاضبةِ، فإنَّ ذلك يُشيرُ إلى تَكَـوِّنِ الشخصيةِ العنيفةِ الـمستهترةِ فيه. فنجدُ في سلوكِـهِ استهانةً بالضوابطِ الاجتماعيةِ والأخلاقيةِ بدرجاتٍ متفاوتةٍ، ومَيلاً إلى العُنفِ الجسديِّ واللفظيِّ في تعاملِـهِ مع أخوتِـهِ ورفاقِـهِ وزملاءِ الدراسةِ. وبالطبعِ، فإنَّ ذوي الشخصياتِ الانهزاميةِ والـمُستهترةِ يكونونَ أكثرَ قابليةً للجنوحِ، وعدداً كبيراً منهم يُكَـوِّنونَ أسراً مُزَعْزَعَـةً ترتفعُ فيها نِسَبُ الطلاقِ. وحتى في وظائفِهِم، نجدُهم غيرَ فاعلينَ، ولا قادرينَ على تقديمِ جديدٍ. ويسودُ التوترُ وعدمُ الثقةِ علاقاتِهم برؤسائهم ومرؤسيهم. التوعيةُ الإعلاميةِ بالتعاملِ معَ الـمراهقينَ لم تزلْ قائمةً على فرضياتٍ بدائيةٍ ترتكزُ على ثنائيةِ: العقابِ والثوابِ، وقلَّما تقومُِ على العِـلْمِ بتداخُلِ الدوافعِ والأسبابِ، والقبولِ بالـمنطقةِ الوسطى بينَ ما نعتقدُهُ صواباً مُطلقاً، وما يراهُ الـمُراهقونَ قيوداً تضغطُ عليهم بشدةٍ. والـمُشكلةُ التي نواجهُها في ذلك، أنَّ الذين لا يعرفونَ عن علومِ النفسِ والتربيةِ إلا ما استقوه من الأعمالِ الفنيةِ الركيكةِ هم الذين يتصدُّونَ للتوعيةِ بعباراتٍ ضخمةٍ لا معنًى علمياً لها. أما الـمُختصونَ فإنَّ ظهورَهم في وسائلِ الإعلامِ محدودٌ جداً، مما يجعلُ من دورِهِم العظيمِ في تنميةِ وعيِ الإنسانِ منقوصاً.كلمةٌ أخيرةٌ: ليسَ الـمَطلوبُ أنْ يكونَ الناسُ، وبخاصةٍ الآباءُ والأمهاتُ، علماءَ نفسٍ وتربيةٍ، وإنما أنْ يكونَ لديهم إلـمامٌ فيهما، من أجل صالحِ الأبناءِ والأُسرةِ والـمجتمعِ.