07 نوفمبر 2025
تسجيلأربعون جدارا أقيمت عالية شامخة مكهربة خلال العشرية الأخيرة بين الدول أوفي قلب الدولة الواحدة وشهد الناس هذه الأيام عشرات الآلاف من المهاجرين بأطفالهم ونسائهم يقفون غاضبين جائعين أمام جدران اليونان ومقدونيا وإيطاليا أوأمام جدران أدغال مدينة (كاليه) الفرنسية أوأمام جدران عجيبة أقيمت في قلب المملكة المغربية بين مدينتي (سبتة) و(مليلة) الخاضعتين للمملكة الأسبانية (أي الاتحاد الأوروبي) وبين بقية أرض المملكة العربية المسلمة وهذه نماذج تؤشر على فداحة المعضلة الإنسانية الناتجة عن تراكم أخطائنا نحن العرب المسلمين وأخطاء مستعمرينا القدامى الذين غادروا الأرض منذ الستينيات ولكنهم حافظوا على مناطق هيمنتهم باللغة والثقافة والتمكن من مصادر الثروة. فبعد جدار برلين الذي انهار تحت معاول الشباب الألماني في نوفمبر 1989 أقامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي جدار العار، يخترق ويمزق ما بقي من أرض فلسطين ورمت الدولة العبرية عرض الحائط بقرارات منظمة الأمم المتحدة التي أذنت بهدمه وإيقاف بنائه بل تواصل تقطيع أوصال فلسطين لمنع نشأة أي دولة فلسطينية في المستقبل كما نصت عليه "اتفاقيات السلام" المزعومة المغشوشة التي لم تنطل إلا علينا نحن العرب وحتى الزعيم ياسر عرفات رحمة الله عليه اغتر بوعودها الكاذبة ورمى بالبندقية في مياه نهر الأردن محتفظا بغصن الزيتون اليتيم فقط ولم يسعفه ذلك التنازل التاريخي فاغتالوه بشحنة بلونيوم وهوماسك بغصن الزيتون! وتواصل بناء الجدران وحتى رفح الحدودية شهدت قيام جدران بين بعض العرب والبعض الآخر وأُغلقت حدود وأحكم حصار. وبعيدا عن الشرق الأوسط المعقد المعذب يقوم الجدار الأطول في العالم بين الولايات المتحدة والمكسيك وهوكما تعلمون لم يمنع أن ينتقل عبره خلال ثلث قرن ثلاثون مليون مواطن مكسيكي وأمريكي لاتيني من الجنوب إلى الشمال من بينهم عشرة ملايين مهاجر غير شرعي بلا وثائق وبلا تأشيرات وعد المرشح باراك أوباما سنة 2008 بتسوية أوضاعهم (كما وعد بهدم أسوار محتشد جوانتانامو) ولم ينجح أمام تحديات التركيبة السياسية الداخلية الأمريكية!وحلت سنة 2015 فسجلت منظمة الأمم المتحدة خلالها وصول مليون من البشر إلى سواحل أوروبا جلهم من سوريا وبعضهم من إفريقيا والمغرب العربي، حملتهم قوارب الموت من بينهم 270 ألف طفل دون العاشرة أحصت من بينهم منظمة اليونيسيف 10 آلاف طفل مفقود يعلم الله وحده أين انتهت بهم رحلة الموت والعذاب؟ فهل مات منهم من مات مثل الطفل الملاك (إيلان) أم راحوا ضحايا عصابات تجار البشر نخاسة هذا العصر وباعة الأعضاء البشرية؟ أولعل بعضهم أسعفه الحظ فاحتضنته عائلة أوروبية ربما تربيه وتعلمه فينشأ في مجتمع غربي مرفه ويتغير اسمه من محمد إلى باسكال، ومصيره يذكرنا بتاريخ السبايا والمماليك والعبيد في القرن التاسع عشر حين كانت الهجرات بالعكس من الشمال إلى الجنوب! هذه هي الجدران المقامة من الخرسانة المسلحة ومن الأسلاك الشائكة المكهربة تعلوها الكشافات وكاميرات المراقبة ويحرسها القناصة ببنادق مزودة بالمناظير كتلك التي قتلوا بها أحد الفلسطينيين شبه العاري على شاطئ عربي منذ أسابيع ليرفع القناص يده بعلامة النصر! في مشهد تراجيدي يجعلنا نشفق على القتيل والقاتل فكلاهما ضحية مسرح اللامعقول السياسي العربي البائس الراهن. أي جدوى في الحقيقة من بناء الجدران وإقامة الحواجز في عالم مؤسس على نظام سياسي وحضاري واقتصادي جائر رسمت حدوده الدول العظمى بغاية استغلال القوي للضعيف وهيمنة الأمم الطاغية على الأمم المستكينة؟ أي جدران تستطيع صد الملايين (وغدا المليارات) من بؤساء الأرض عن الالتحاق بمرفهي الأرض ويكفي أن تسمع بعض هؤلاء العالقين على حدود اليونان مثل "عدنان" المواطن السوري الهارب من جحيم القصف الروسي على مدينة حلب وهو مصحوب بزوجته غادة وبطفلين بريئين تقرأون في عيونهم الحلبية كل فواجع الحرب والدمار يقول عدنان: "صار لنا أسبوع من ساعة وصلنا ونجونا من عواصف البحر وأنزلونا لليابسة ننام في العراء ولا نأكل إلا بعض (السندويتشات) التي توزعها علينا الجمعيات الخيرية المسيحية بعد أن نصطف ساعتين في الطوابير. هيك العذاب ها الأيام والأطفال بردانين وعندهم حمى وناقصين ملابس وخيام وأرجلنا تجمدت بالصقيع يا عالم يا مسلمين يا عرب فين النخوة فين الكرامة فين التضامن؟" نموذج من مئات الآلاف من تراجيديا الهجرات تقابلها من الجانب الأوروبي اليوم محاولات إنسانية للتخفيف من مصائبنا ومعها ممارسات عنصرية رشحت أحزاب اليمين العنصري المتطرف للوصول للحكم قريبا. وإلا كيف نفسر أن يؤسس مرشح الرئاسة الأمريكية (ديفيد ترومب) حملته في الانتخابات التمهيدية على الالتزام بمنع المسلمين (كل المسلمين) من دخول الولايات المتحدة لو وصل إلى البيت الأبيض! رغم بعد أمريكا عن الهجرات المشرقية. العالم يزداد انشقاقا بين الحضارات لا بين الدول والحرب كما أعلنها (صامويل هنتنجتن) أصبحت بين الثقافات لا بين الجيوش. فمتى ندرك نحن العرب المسلمين أن البقاء للأقوى في مسار الانتقاء الطبيعي والإنساني الذي نحن فيه وهذا الانتقاء لا يرحم ضعيفا أوغافلا بل يضعه في سلة السلالات المؤهلة للانقراض.