07 نوفمبر 2025

تسجيل

عصور الاستغباء ولّت!

07 مارس 2011

تعلمنا الثورات الجارية أن الشعوب العربية لا تختلف في طموحاتها، وتغري بعقد مقارنات أولا لاكتشاف كيف استفادت المجتمعات بعضها من بعض، وكذلك لرصد الظروف الخاصة بكل بنية والاجتهادات التي فرضتها التحديات على كل منها، وحيث وصلت موجة الاحتجاج أو لم تصل وجدت الأنظمة والحكومات أن الأحداث تفرض عليها التساؤل والبحث ومحاولة استباق الشارع، من دون أن يعني ذلك أن أي نظام ترتسم فوقه علامات استفهام سيبادر تلقائيا إلى التخلي عما في يديه من سلطة وصلاحيات غالبا ما يكون منحها إلى نفسه غير عابئ بما يريده الشعب. ينبغي ألا يتوقع أحد أن تكون الحراكات نسخة متطابقة، ما يمكن توقعه، بل ما يجب أن يكون، هو التصميم والعناد لإحداث التغيير مهما كانت الأكلاف، إذ إن الفشل أو التراجع قد يكلف أكثر فالأسوأ من الحكم السيئ أن يتمكن من سحق ما يعتبره تمردا وأن ينطلق من الانتصار التي يحققه لاستئناف سطوته كالمعتاد، مستخلصا أن منطق القوة وحده يملك الكلمة الأخيرة حتى لو تعلق الأمر بشعبه، وكلما كان دمويا وقاسيا كان أفضل. إذا كان التوق إلى الحرية هو المطلب الوحيد لهذه الحراكات، فإنه سيبدو كافيا وشاملا وهو ما كان واضحا في مجملها، بما فيها تلك التي ظهرت كأنها مطلبية بحتة لا تشي شعاراتها بطموح تغيير النظام أو إسقاطه، فالمنطقة العربية الموجودة تحت الأضواء منذ عقود، وصفت بالنعوت كافة، وانتهت الأحكام إلى اعتبار أن الحرية لا تنتمي إلى ثقافتها، وأنها أقرب إلى مجتمعات صمت وخنوع، وإذا حدث أن خرجت عن الصمت فإلى الإرهاب والانتحارية وكلاهما وليد انفعال وفوضى، فلا يبني تجربة ولا يراكم خبرة ولا ينتج عنها أي تطور. لعل هذه الفكرة الثابتة هي الآيلة الآن إلى السقوط، إذ تبني الأحداث بنوعيتها وتفاصيلها، أن وعيا مختلفا قد اجتمعت معالمه، وأن الجيل المحرك للثورات قد تشبع من معاينته للتجارب العربية وتماسها مع السياسات الدولية غير المنصفة طوال العقود الأخيرة. هذا جيل ولد من رحم الهزائم والإحباطات وعانى الإخفاق المتمادي في إقامة دول عربية على قواعد القانون والمؤسسات، فمن كان في سن العاشرة عندما اكتملت الهزائم العربية واندلعت الحرب الأهلية في لبنان، أصبح الآن في الخمسين وعايش التخبط العربي والتيه في صحارى اللا حرب واللا سلم، ومن كان في العاشرة حين بدأ مسلسل السلام – الاستسلام العربي لإسرائيل، أصبح الآن في الأربعين وشهد إخفاق السلم بعد إخفاقات الحرب، ومن كان في العاشرة يوم غزا عراق صدام حسين الكويت مدمرا التضامن العربي ومدشنا عصر الذل العربي، أصبح الآن في الثلاثين وشاهد بأم العين شظيات النظام العربي وموته البطيء، ومن كان في العاشرة يوم 11 سبتمبر 2001 حين اختصرت أمريكا والغرب كل العالم العربي والإسلام في مجموعة إرهابيين هامشيين، أصبح الآن في العشرين ويعاني هو في حد ذاته من تبعات تلك الهجمات في نيويورك وما تبعها في كل مكان تقريبا، بل أصبح مطلوبا ومطاردا ومتشبها به فلا احترام له في بلده ولا في أي مطار في العالم، وتساوت عنده الصعوبات طالما أن أحدا لا يريد الاعتراف به أو إعطاءه فرصة، ولعله في أعماق وجدانه شعر بأنه مختلف عن واقعه، وبأنه بشكل ما قد غير ما في نفسه فلابد إذن من أن يغير الواقع المتكلس الجاثم على صدره. ربما كان ينظر إلى هؤلاء الشباب على أنهم سطحيون تهمهم المظاهر ولا شيء سواها، أو متواكلون غير مبادرين لا يمكن الاعتماد عليهم، أو حتى جهلاء كونهم غير مسيسين بالمعنى المتعارف عليه، فإذا بهم فجأة يصبحون قلب الأمة وبوصلتها، بل يحظون بتشجيعها وإعجابها، لم يسبق أن تحصله فئة من هذه الأمة بالمصداقية التي تمتعوا بها حتى إنهم بعد إنجاز ما اعتبر غاية الغايات، والأصعب، مثل إسقاط النظام، ظلوا ساهرين لئلا يسرق أحد ثورتهم، ولئلا تنخدع بقية الشعب بأن ما تحقق على أهميته كاف ومضمون وبعدما اخترقوا الأحزاب التقليدية وبالأخص المعارضة منها وهمشوها وتجاوزوا قدراتها، استطلعوا أيضاً أن يعطلوا نهج التسويات بين أطراف اللعبة السياسية. ففي نهاية المطاف أسقطت في تونس ومصر الحكومتان اللتان مثلتا استمرارا للنظام السابق، وذلك بفضل إصرار الشبان ومثابرتهم، إذ يبدو كأنهم يعرفون تماما وبدقة ما يريدون، وللسائل من يحكم؟ يمكن القول إنه ميدان التحرير في القاهرة، أو أنه الشارع التونسي، وحتى العسكر الذين شكلوا ضمانا للتغيير في هذين البلدين أدركوا أن الشبان يفكرون من دون أغراض ولا مصالح، وبالتالي فإنهم أقرب إلى الصواب، وقد حصل في مصر، كما في تونس، بعد سقوط النظام، أن العسكر ضبطوا مجموعات تتغلغل بين الشبان الذين واصلوا التظاهر وتبين أن فلول النظام السابق لا تزال ترسل بلطجية بغية الإيقاع بين الثوار والجيش، وأمكن اكتشاف تلك المجموعات بعدما رصد أفرادها في مناسبات يبادرون إلى مهاجمة الجنود واستفزازهم خلافا للآخرين الذين يحافظون على الطابع السلمي للتظاهرات. يوحي هذا الجيل الثائر بأن لديه لغة جديدة يتكلم بها ومفهوما مختلفا للسياسة لم تستطع الأنظمة أن تتعامل معه، لا تكليفا ولا تطويقا فهو يرفضها ويدعوها إلى الرحيل ولا يتوقع منها شيئا، لماذا؟ لأن معظمها أمضى وقتا طويلا في الحكم، أي انه اخذ وقته ووقت سواه، وحصل على فرصته مرة تلو المرة، ولو كان لديه ما يمكن أن يبرهنه لفعل، لذا لم يعد هناك معنى لبقائه ولا مصداقية لما يمكن أن يعد به هي أنظمة منتهية الصلاحية منذ زمن وكان عليها أن تجدد نفسها أو ترضخ للواقع ففي اليمن كما في ليبيا، يحاول النظامان مقاومة الطبيعة ومنطق التاريخ، وبات الأمر يتوقف على إرادة رجلين يريدان أن يتحكما بنهايتيهما ما استطاعا إلى ذلك سبيلا، والفارق بينهما وبين سبقاهما أنهما تحوطا لإمكان أن ينحاز الجيش إلى الشعب واختارا أن يجازفا بعلاقة هذا الجيش مستقبلا مع الشعب والوطن من أجل شخصيهما، لكن هذا ليس خيارا، ولن يكون كذلك مهما طال الدقة.