08 نوفمبر 2025

تسجيل

السلطة المركزية وميراث البلطجة

06 يونيو 2014

حين تكون السلطة المركزية في أية دولة في حالة قوة، فإن قدرتها على ضبط إيقاع المجتمع تظل قدرة فعالة ومؤثرة، كما تظل مكونات المجتمع وأطيافه المتنوعة في حالة انسجام أو على الأقل في حالة تعايش هادئ، أما حين تصاب تلك السلطة المركزية بالوهن والضعف أو يتم إسقاطها، فإن التنافر يبدو واضحا جليا بين مكونات المجتمع، كما تشعر الأقليات بقدر كبير من الهلع والفزع، فتبدأ على الفور بالبحث عن أطواق نجاة لعلها تنجو من الطوفان المجهول القادم، وقد تكون تلك الأطواق مشروعة أو غير مشروعة، وإذا كان التاريخ الإنساني بمثابة سياسة لكنها سياسة متجمدة، كما أن السياسة هي تاريخ لكنه في حالة سيولة، فإننا نستطيع لو قلبنا صفحات التاريخ أن نتعرف من خلالها على ما جرى فيما مضى وأن نرى وجوه التشابه والتلاقي بين ذلك الذي جرى وبين ما يجري وما يزال جاريا حتى الآن. من هذا المنطلق، نستطيع أن نتذكر حكاية ( اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها ) كما سردها المؤرخ الكبير إدوارد جيبون، ونستطيع التعرف على أسرار انزلاق الحضارة العربية الإسلامية من الازدهار إلى الاندحار حتى من قبل سقوط عاصمتها بغداد في أيدي المغول.. أما على صعيد الانتفاضات والثورات الشعبية، فإن التاريخ يؤكد لنا جميعا أنها لم تنجح ولم تحقق أهدافها وغاياتها بشكل حاسم إلا بعد أن مرت بأوقات مريرة وصعبة، سادت الفوضى خلالها في كل مجالات الحياة، فخلال الثورة الفرنسية الشهيرة التي تعد أم الثورات في أوروبا كانت الخلافات في الرأي تحتدم بين الثوار أنفسهم، بل إن أقواهم كان يفصل رؤوس أفراد الفريق المخالف عن أجسادهم بآلة الرعب القديمة - المقصلة، حيث ذاع المثل القائل: الثورة كالقطة تأكل أبناءها! لو ركزنا الحديث على مصر أثناء مرحلة خروجها من ظلمات عصر المماليك، وبالتحديد حين قامت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت باحتلال مصر، فإننا نستطيع التعرف على ملامح الفوضى المرعبة، وكلها ملامح عاشها ورصدها المؤرخ المصري العظيم عبد الرحمن الجبرتي في كتابه الضخم ( تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار) فهو – على سبيل المثال- يشير إلى أحوال مصر قبل احتلال الفرنسيين لها مباشرة، فيقول بالحرف الواحد وبأسلوب السجع الذي كان شائعا وذائعا في زمانه: إن سنة 1213 هجرية هي أولى سنوات الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور وترادف الأمور وتوالي المحن واختلال الزمن، وتتابع الأهوال واختلاف الأحوال، وفساد التدبير وحصول التدمير.. وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون .السؤال الآن: أليس هذا الذي جرى مما عاشه ورصده الجبرتي يكاد يكون هو نفس الذي عشناه وما زلنا نرصده في مصر عبر الأيام والشهور التي تلت يوم الخامس والعشرين من يناير سنة 2011؟ .. أليست ملامح الفوضى التي سادت هي نفس الملامح التي تسود الآن؟ .. لكأني أتصور وجود صلات من الدم والقرابة بين البلطجية وقطاع الطريق والعربان الذين تحدث عنهم الجبرتي وبين الذين جاءوا من بعدهم، وكأن القدامى قد تناسلوا وتكاثروا، فأصبحوا أجدادا، يقتدي الأحفاد بجرائمهم، فيكررون ما سبق للأجداد أن ارتكبوه، وهكذا يمكننا أن نتذكر – ونحن نقلب صفحات التاريخ - المثل العربي القائل : من شابه أباه فما ظلم !