10 نوفمبر 2025

تسجيل

العالم يستقبل ثورة رقمية جديدة

06 مارس 2021

إن الباعث وراء كتابة هذه الأسطر خبر تناقلته وسائل الإعلام الفرنسية والأوروبية ابتداء من يوم الخميس 21 من شهر يناير/ كانون الثاني 2021، ومفاده بأن الرئيس الفرنسي ماكرون قد وعد بتخصيص موازنة معتبرة للاشتغال على تطوير "الحاسوب الكمي" (Quatum computer)، وذلك للإبقاء، حسب قوله، على فرنسا وأوروبا في حلبة المنافسة، جنبا إلى جنب مع العملاقتين، أمريكا والصين. ويستدعي هذا الخبر أكثر من وقفة تأمل؛ فهو، بداية، دليل على وجود عقل مستشرف يحاول النظر في البعيد الغامض؛ وقد مكّنه هذا النظر من إدراك دور التكنولوجيا المتنامي في تحقيق الريادة في عالم الغد. هذا من وجه، ومن وجه آخر؛ فإن الخبر يتعلق بابتكار تكنولوجي ذي مواصفات محددة ينبغي الوقوف عند أهميتها. فالحاسوب الكمي المتحدث عنه ليس أداة تكنولوجية جديدة فحسب؛ بل ابتكار يُشترط في إتمامه تجاوزٌ لمبادئ العقل المنطقي التقليدي، واعتماد مبادئ الفيزياء الحديثة. إذا كانت الثورة الصناعية، كما يقال، قد مكّنت الإنسان من تجاوز حدود قوته الجسمانية العضلية، إذ صار بمقدور الفرد الواحد، بفضل آلة واحدة صغيرة، أن يرفع من الأثقال ما كان يعجز عن رفعه عشرات، بل مئات الأفراد مجتمعين؛ فإن الثورة التكنولوجية التي تعتمل في واقعنا اليوم، ستمكّن الإنسان، بفضل الذكاء الاصطناعي، من تخطي حدود قوته العقلية في التفاعل مع الواقع الكوني تفاعلا ذكيا، إن على مستوى فهم هذا الواقع واستيعابه، أو على مستوى التأثير فيه وتغييره. وقبل التفصيل في موضوع المبتكرات التكنولوجية الجديدة، في علاقتها بمبادئ العقل، لا بد من الإشارة إلى دور هذه المبتكرات في إقرار موازين القوة ورسم ملامح عالم الغد الجيو-إستراتيجية. فالواقع الكوني الحالي يشهد تفاوتا كبيرا بين 3 أصناف من المجتمعات من حيث الوعي بأهمية التكنولوجيا والقدرة على الالتحاق بمنظومتها الجديدة. نفهم من كلام الرئيس الفرنسي أن الولايات المتحدة الأمريكية والصين تتصدران لائحة المتفوقين في الخبرة التكنولوجية اللازمة لريادة العالم، كما نفهم من كلامه أن فرنسا ونظراءها لا ييأسون من الالتحاق بركب هؤلاء المتفوقين. ونستنبط من سياق الكلام وجود صنف ثالث مسكوت عنه، ألا وهو صنف المجتمعات العاجزة عن الالتحاق بركب التكنولوجيا؛ المجتمعات التي لا تطمع، إما لظروف ذاتية أو موضوعية، في توظيف الابتكار التكنولوجي بغرض إثبات الذات في عالم الغد. ومع التطور التكنولوجي لم يعد الواقع المنظور مجرد لحظة عابرة يختلف الناظرون، كلّ من زاوية نظره، في نقلها بعد تعقّلها. فحين نتأمل في تقنية الفيديو المعتمدة لمساعدة الحكام في إدارة مباريات كرة القدم، مثلا، نجد أن التكنولوجيا أصبحت تتيح "عرض الواقع" من جديد للوقوف عند حقيقة ما وقع. فبعد أن كان الحدث العابر مرتبطا بلحظة حدوثه ووقوعه، لحظة زمنية لا تعود، صار اليوم، بفضل تقنيات التصوير، مشاهدَ ومناظرَ لا صلة لها بزمن وقوعها، بل بأزمنة مختلفة، أزمنة إعادة عرضها وقراءتها. لقد مكنّت تقنية التصوير الإنسان من "تقليب النظر" في الوقائع والأحداث، في ما جرى وانتهى زمن جريانه، بعد أن كان من قبل لا يقلّب نظره إلا في الأشياء الجامدة، يعاينها من "زوايا نظر" مختلفة. ولا شك أن لهذا التحول -من القدرة على تقليب النظر في الشيء الثابت إلى القدرة على تقليبه في الأشياء المتحركة- انعكاسات كبيرة، أدناها الانعكاس على السلوك الإنساني؛ فقد صار الإنسان، وهو يعلم أن حركاته مثل سكناته أصبحت مثبتة في سجل من الصور يمكن فتحه في كل لحظة، صار يحتاط بخصوص ما يأتيه من أفعال، فيختار منها ما يليق ويدع ما لا يليق. هذا على أن الانعكاس الأكبر لهذا التحول هو في العمق انعكاس على بنية العقل المنطقي الكلاسيكي، خصوصا على طرق تمثّل هذا العقل ومعلوم أن الفضاءات العمومية الرقمية أصبحت تعجّ بملايين الأحداث المرئية والصور التي لا تنضبط بضابط ولا ترتبط برابط، ومعلوم كذلك أن العقل أصبح حائرا أمام صبيب الصور والمشاهد التي لا تنضب، يقف عاجزا عن تعقّل ما يحدث في عالمه المنظور، يعييه التصفح وتقليب الصور؛ بحيث لو أراد أن يتمثّل حقيقة لحظة تاريخية واحدة من خلال الصور المعروضة، لاحتاج إلى أن ينظر بعينه في آلاف شاشات العرض مرة واحدة، وهذا أمر متعذّر، يظل فوق طاقة العين المجردة. إلا أن ما تعجز عنه هذه العين، لا يُعجِز العين التكنولوجية التي أصبحت تتوسل بالذكاء الاصطناعي الفائق لتنظر وتحلل وتتعقّل. فقد صار بمقدور المالك لهذه التكنولوجيا أن يخبرك، قبل أن يرتدّ إليك طرفك، عن القواسم المشتركة بين مظاهر الواقع المرئي وأوجه الاختلاف بينها؛ كأن يخبرك بأن من ضمن 100 ألف فيديو بُثت هذا الصباح على اليوتيوب، هناك هذا القدر أو ذاك من الفيديوهات التي صُوّرت في حضن الطبيعة مثلا، أو داخل غرف مغلقة، أو أن يخبرك عن القاسم المشترك بين ما يقوم به أصحاب الفيديوهات من أنشطة، فيصنف لك الأفراد وفقا لاهتماماتهم الرياضية والفنية والجنسية وما إلى ذلك. ولا شك أن المالك لهذا الذكاء الاصطناعي ولأكثر الأدوات التكنولوجية سرعة هو أقدر من غيره على قراءة الواقع ومعرفة ما يختصم فيه من عزائم وأحاسيس وتطلعات، ومن ثمّ يكون أوفر حظا من غيره في التحكم في المجتمع وتوجيه دينامياته. لم يعد الفضاء العمومي بمعناه القديم هو المصدر الوحيد لمعرفة الواقع المجتمعي، أو جسّ نبض الشارع كما يقال؛ فلقد أجهزت الوسائل التكنولوجية أو كادت تجهز على الفضاء العمومي المرتبط بالمكان الجغرافي، القائم على سلطة الأغلبية؛ وهي الآن بصدد إرساء دعائم فضاء هجين، اعتمادا على حركة الأفراد، ذهابا وجيئة، بين الفضاءين الجغرافي والرقمي الافتراضي. ليس عجيبا أن تخلق التكنولوجيا ثقافة جديدة، تقطع مع التصورات التي انبنت عليها الثقافة السائدة؛ فلم يعد العقل التكنولوجي يعنى بالبحث عن التطابق بين الحقيقة والواقع، بل صار يعنى بصناعة هذا الواقع وبرمجته. وبعد هذه الأمثلة عن أوجه التطور التكنولوجي ونفوذ الأداة التكنولوجية المتزايد في تدبير شؤون الأفراد والمجتمعات، نختم بما ينبغي أن يُعرف من أمر الحاسوب الكمي الذي كان محور حديث الرئيس الفرنسي، ونُذكّر بأن هذا الحاسوب هو أكثر من مجرد أداة أسرع من سابقاتها من الأدوات؛ إنه على الحقيقة امتداد لعقل يقطع مع علوم الآلة التقليدية كلها، ذلك أنه يقوم على مبدأ غير مبدأ "الثالث المرفوع" الذي نحكم بموجبه على الأشياء إما أن تكون أو لا تكون. إن ما يستوقفنا من أمر الحاسوب الكمي، بعيدا عن التفاصيل الفيزيائية المعقدة والمستعصية على الفهم، هو كونه أداة يُتوسّل في صنعها بمنطق جديد لا يقوم على مشاهدة الأشياء في عالمنا المرئي؛ منطق يقوم على ما يتيحه النظر بوسائل تكنولوجية في عالم الذرة المتناهي الصغر، حيث تتفلت الأشياء من قبضة منطق الهوية الثابتة، فتدخل في وضع هويات مركبة (Superposition)، يكون بموجبها الشيء عينه وغيره في الآن ذاته. وبذلك أصبحت التكنولوجيا لا تقف عند حدّ تجاوز مبادئ العقل الذي ظل ينظر بالعين المجردة فحسب، بل جعلت تطرح تحديات كبرى أمام منظومة القيم الموروثة من الأزمنة الثقافية التي تسبق الزمن التكنولوجي. ولعل ما تقتضيه مجابهة هذه التحديات، ضمن ما تقتضيه، الوعي بطبيعة الواقع كما أصبح يتشكل في الزمن التكنولوجي. ولا ينفعنا أن نشيح بأعيننا عن هذا الواقع، وكأنه غير موجود، فنحكم عليه بمقاييس عقلية قديمة، أو نتشبث بمنظومة ثقافية لا تسعف في إنتاج الأسئلة التي تفضي الأجوبة عنها إلى فهم ما يحدث حولنا من تطورات، كأن نستمر في معاهدنا ومؤسساتنا الجامعية في طرح سؤال جواز الاشتغال بالمنطق الأرسطي، نردد مع الناظم "والخلف في جواز الاشتغال به على 3 أقوال… ". وما أشبه حال هؤلاء العمال بحال مجتمعات الصنف الثالث العاجزة عن التفكير في توظيف التكنولوجيا في فرض ذاتها في عالم اليوم. هناك موانع كثيرة تمنع هذه المجتمعات من دخول الزمن التكنولوجي؛ موانع موضوعية خارجية، وموانع أخرى ذاتية داخلية. فمن الموانع الذاتية الداخلية ما هو سياسي مرتبط بامتناع السلطة الحاكمة عن طلب التطور التكنولوجي خشية فقدان الهيمنة، ومنها كذلك ما هو ثقافي مرتبط ببنى ثقافية قديمة ترى في الجديد التكنولوجي ما يجرّدها من شرعيتها المعنوية، ومنها ما هو اقتصادي مرتبط بالخوف من أن يفضي توظيف التكنولوجيا الجديدة إلى فقدان مناصب شغل قديمة. وفي الختام نقول إن من يُطلّ على الفكر في عالم اليوم لا بد من أن يلوح له ما أضحى عليه عمالقة التكنولوجيا من قوة وقدرة على التحكم في مصير الأفراد والمجتمعات. وهذا أمر لا يلاقي رضا النفوس وإعجابها دائما؛ فإذا كان للتطور التكنولوجي أوجه يحسن بها، فله كذلك أوجه أخرى يسمج بها. ومن المعلوم أن الوعي بهذه الأوجه كلها يتوقف على دخول الزمن التكنولوجي، إلا أن الأفراد والمجتمعات أصبحوا لا يملكون أن يدخلوا هذا الزمن كما يريدون هم، بل يدخلونه كما يراد لهم أن يدخلوا. وهذا لعمري من المفارقات التي تستوقف العقل وتستحثّه على التدبر في سؤال الآلة في علاقته مع أسئلة العقل والثقافة والجيو-إستراتيجيا، وسؤال المعنى على وجه الخصوص. كاتب وباحث مغربي الجزيرة نت