15 نوفمبر 2025
تسجيلإن لفظي التعصب والتسامح من ألفاظ الهجاء والمدح الشائعة في مجتمعنا، فإذا أراد الناس أن يذموا شخصا، قالوا عنه إنه متعصب، وإذا أرادوا أن يمدحوه ويثنوا عليه قالوا إنه متسامح. قال صاحبي: ما هو نصيب هذا من الحق؟ وما أثره في حياتنا الاجتماعية؟ قلت: هناك حقوق للأفراد وحقوق للجماعات. ومن حقوق الأفراد ما هي أساسية لا يعتبر الإنسان سعيدا بدونها، كحق الحياة وحق العلم.. إلخ، ومن واجبه أن يدافع عنها ويتعصب لها. هكذا يكون تعصب الإنسان لحقوقه الأساسية ودفاعه عنها فضيلة يحمد عليها، وتسامحه فيها نقيصة يذم عليها.. أما في الحقوق الجزئية كحقك على فلان بمال، فالتمسك بحقك مشروع ولا عيب فيه، أما حقوق الجماعة كحقها في الاستقلال والكرامة والأمن والسعادة، فهي حقوق مقدسة لا يجوز التفريط فيها، بل يعتبر التفريط فيها خيانة تستحق العقوبة البالغة. وخير تطبيق على هذا دور أبي بكر رضي الله عنه ضد المرتدين، حين وقف ذلك الموقف الحازم الشديد من هؤلاء المرتدين.. فلقد أراده بعض الصحابة أن يهادنهم ويجيب بعضهم إلى ما أرادوا من الامتناع عن دفع الأموال لخزانة الدولة، فأبى ذلك وخالفهم جميعا وقال قولته الشهيرة: "والله لو منعوني حقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلتهم عليه". إنه هنا يقف موقف المتشدد في حق الجماعة المنكر على من يتمرد عليها المتعصب لقوانينها وأنظمتها، الحريص على نصيبها في أموال الأفراد.. فهو هنا في أشد حالات التعصب الكريم الحميد، ومن ثم كان في مكانة الصدارة بين الرؤساء الخالدين. ولا شك في أن العقيدة مظهر من مظاهر الحياة الحرة الكريمة للأفراد والجماعات، والدين في حقيقته – كما يريده الله – طريق حب وسلام للناس وسلام فيما بينهم كما قال عليه الصلاة والسلام "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، رواه البخاري ومسلم، وهو عمل الخير للناس جميعا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله"، رواه البزار. فمن تمسك بالدين فقد تعصب للحب والخير والحق والعدل، ومن تساهل فيه، كان متسامحاً في هدم كيان المجتمع وإشاعة الشر والعدوان والظلم فيه. والدين الحق يعطي لكل ذي حق حقه، ويحفظ كرامة البائسين والمشردين، ويوازن بين الأقوياء والضعفاء حتى لا يطغى قوي ولا يمتهن ضعيف فهو على هذا دعوة إلى عدالة اجتماعية. إن هذه هي حقيقة التعصب الكريم للعقيدة وتلك هي حدوده وآثاره.. أما التعصب الذميم، فهو أن تضطهد مخالفيك في العقيدة، تحقد عليهم وتسيئ معاملتهم. إن التاريخ يقف موقف الإجلال والاحترام للذين أظهروا سماحة الدين في حكمهم، وفتوحاتهم، كما يصب لعنته واحتقاره على الذين قاموا بأبشع صور التعصب في انتصاراتهم وسيطرتهم. فحين دخل عمر رضي الله عنه بيت المقدس وأعطى أهلها أمانا على معابدهم وكنائسهم وعقائدهم وأموالهم، كان مثالا لصاحب الدين في سماحته ونفسه الإنسانية الكبيرة. وحين دخل السلطان محمد الفاتح القسطنطينية، وأعطى بطرياركها سلطانا داخليا على رعيتهم، لا يتدخل في عقائدهم ولا في عبادتهم، كان مثالا لرجل الدين الذي يتسع صدره للناس جميعاً، والذي يرى أن حق الناس أن يعبدوا الله أحراراً كما يشاؤون. وحينما نقارن بين سماحة الإسلام وما فعله الإسبان المتعصبون على إسبانيا المسلمة، حيث شردوا أهلها واضطهدوا عقائدها، لم يكونوا يمثلون سماحة الدين الذي يعتنقونه، وإنما كانوا يمثلون حقد المتدين الجاهل. إن مآسي التفرقة والعداء والحروب والفتن الدينية إنما كانت ناشئة من التعصب اللئيم للجهل والحقد والخرافة والضلالة. أيها الشباب.. يقول الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم). فهذا خطاب للجماعة أن تتعصب لحقها ولا تسامح فيه أبدا، ويقول تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). فهذا هو خطاب للفرد أن يتسامح مع الناس ويسعهم بصدره وخلقه. هذا وبالله التوفيق.