09 نوفمبر 2025
تسجيلبعدما فشل مشروع إبقاء بضعة آلاف من العسكريين الأمريكيين في العراق، لأغراض تدريب قوات الجيش والأمن، ارتضى البلدان الاكتفاء باتفاق تعاون وشراكة يغطي مختلف المجالات، بما فيها الأمن والدفاع، ويشكل امتدادا لـ"اتفاق الشراكة الاستراتيجية" الذي أبرم قبل ثلاثة أعوام، لكن بمفاهيم مختلفة للعلاقة بينهما. هذا ما أنجزه نائب الرئيس الأمريكي جوزف بايدن ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عشية بداية شهر ديسمبر الذي سيتم بنهاية الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق، وهو انسحاب يمثل في حد ذاته بداية لمرحلة دقيقة في المنطقة، فبالنسبة إلى العراق تعني نهاية الاحتلال بداية الاعتماد على الذات لتثبيت النظام وتعزيز دعائمه، أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة فلعله يعني البحث عن سبل أخرى لإدارة استراتيجيتها في المنطقة. كان الوجود الأمريكي في ارض الرافدين محورا رئيسيا للصراع الداخلي بين الفئات التي عوّلت على الاحتلال للسيطرة على الدولة وتلك التي ساهم الاحتلال في هزمها وتهميشها، ورغم ان الامريكيين بذلوا جهدا كبيرا للانفتاح على مختلف المكونات الاجتماعية، بمن فيها السنّة، إلا أنهم لم يتمكنوا من اقناع الجميع بالانخراط في ما سمّوه "العملية السياسية" تحديدا لأن هذه العملية استندت إلى خريطة سياسية جديدة ساهم الاحتلال نفسه في رسمها ومارس سطوته لإرساء وقائع وحقائق جديدة، كما أنه دفع في اتجاه تبني الدستور الجديد الذي أقيم النظام الجديد على أساسه، لينتهي إلى الإقرار بأنه دستور يحتاج إلى تعديل كي ينصف الجميع. يغادر الأمريكيون من دون أن يتمكنوا من حمل حكومة المالكي الحالية أو السابقة، على إحراز خطوات جوهرية في اتجاه المصالحة الوطنية. وكانت المفارقة خلال الأعوام الخمسة الماضية، ان سلطة الاحتلال هي التي كانت تلح على هذه المصالحة وتعتبرها عنصرا ضروريا لابد منه لمواكبة التحسن في الوضع الامني او التقدم في تأهيل القوى الأمنية وتسليمها المناطق والمدن كافة، اما الحكومة فكانت ولا تزال مكتفية بإيجاد أي صيغة ممكنة لتأمين شيء من التعايش بين القوى السياسية داخل الحكومة، أي داخل "المنطقة الخضراء" في بغداد. يفترض أن تشكل نهاية الاحتلال نهاية أيضا للمربع الأمني الذي سمي "المنطقة الخضراء" وإذا أبقي عليها فلن يعني ذلك سوى أن نظام ودولة "ما بعد صدام حسين" لا يزالان معوقين وغير قادرين على الخروج لملاقاة جميع العراقيين بمنأى عن المخاوف والتفجيرات، وإذا كان رهان حكومة المالكي أن زوال الاحتلال سيتيح فرصا كانت حتى الآن متعذرة لفتح حوارات وطنية، فالأولى أن يلتفت المالكي الى تطبيع أوضاع حكومته قبل أن يلتفت الى تطبيع العلاقة مع المناوئين للنظام حتى ولو كانوا لا يملكون القدرة على هزّه أو وضعه في خطر الانهيار. والواقع أنه لا يملك خيارا آخر غير "المصالحة الوطنية" إذا كان يريد تدعيم الحكم المركزي وتوطيد الأمن والاستقرار، وبالتالي التهيئة لحكم يهتم أكثر بمسائل اعادة الاعمار وتفعيل التنمية وتوفير الخدمات، من هنا فإن على المالكي ان يغير اسلوبه في ادارة شؤون حكومته، فالمهمة بعد انسحاب الامريكيين ستكون اصعب ولن يعود ممكنا بعده إلقاء المسؤولية على احد آخر، اذ ان هذا الانسحاب لا يضعه وحده في الاختبار، بل يضع ايضا قوى الجيش والامن امام امتحان اثبات انها نشأت وتدربت لتعمل بعيدا عن الفئوية والمذهبية، وانها منزهة فعلا مما تتهم به من انحياز وتواطؤه لفريق ضد فريق، فممارساتها خلال الاعوام السابقة خلفت الكثير من الشكوك، التي لابد من إزالتها كذلك ستتحمل الأطراف السياسية الاخرى جانبا من المسؤولية ان هي تهاونت في السير نحو المصالحة، او حاولت الحفاظ على الامر الواقع الراهن لمجرد انها مستفيدة منه او اعتادت عليه، ذاك ان هناك وطنا ينبغي ان يبني وان يضم الجميع تحت أجنحته. يستدل من بنود اتفاق التعاون العراقي-الأمريكي ان الجانبين يتطلعان الى علاقة نشطة وحيوية تشمل كل القطاعات، من الاقتصاد والتعليم والثقافة، الى القضاء والبيئة والطاقة، الى تحسين الخدمات وتطوير شبكات الطرق والجسور والمطارات فضلا عن تحسين الزراعة ونظم الري ودعم التجارة وخدمات الرعاية الصحية، واذا تفحصنا ما ورد في الاتفاق عن تطوير النظام القضائي المستقل، باعتباره "ركنا اساسيا لبناء نظام ديمقراطي مستقر"، او ما يتعلق بـ "بناء نظام تعليم عال أكثر رصانة"، نجد أن الجانب العراقي يلتزم نمطا ومفهوما يتناقضان مبدئيا وظاهريا مع الأنماط والمفاهيم التي فرضت نفسها على الارض، سواء بفعل تنامي الاتجاه الديني والثقافة التي يبثها في المجتمع، او بفعل ازدياد تغلغل النفوذ الايراني في مختلف مفاصل البلد وشرايينه ولذلك يدفع هذا الاتفاق الى التساؤل المشروع عن مدى واقعيته، أو على الاقل عن جدية الجانب العراقي في التعامل مع اوجه التعاون التي يقترحها. وهذا يمهد لتساؤلات أخرى أهمها مثلا من سيملأ الفراغ الذي يخلفه الأمريكيون والى أي حد يبدو هؤلاء متأكدين من ان جلاءهم العسكري لن يؤدي الى انحسار نفوذهم السياسي والمعنوي؟ لاشك ان العراقيين يعتبرون الانسحاب الامريكي بمثابة الفرصة التي يجب ان ينتهزوها لممارسة سيادة كاملة على ارضهم، لكن التغيير الذي طرأ على طبيعة الدولة والنظام والمجتمع فتح الأبواب لمختلف انواع التدخلات، وفيما لا يزال النفوذ العربي منكفئاً يحاول النفوذ التركي إنشاء مواطئ قدم له في حدود المتاح وفي اطار السيادة العراقية، اما النفوذ الإيراني فلا ينفك يتوسع ولا يصادف أي حواجز أو عراقيل. بات الرهان الآن على العراقيين، لا سيما من هم في الحكم، ليظهروا في الداخل كما في الخارج تصميمهم على تسلم زمام بلدهم والسعي الى توافق تاريخي لابد منه لتجنب تشظي العراق دويلات متنافرة، وبمعزل عما اذا كان النفوذ الايراني تغلغل بارادتهم ليقيم توازنا مع الاحتلال الامريكي، فإن الوقت حان لوضع الأمور في نصابها، اذ ان العلاقة المميزة مع طهران يجب ألا تجعل العراق بيدقاً على الشطرنج الإيراني.