16 نوفمبر 2025
تسجيلتغرق تركيا في تفاصيلها الداخلية وفي ملفاتها الإقليمية والدولية. تركيا التي خرجت من انتخابات جددت لحزب العدالة والتنمية بخمسين في المائة وفتحت على إمكانية الإعداد لدستور جديد مضت في صورة مغايرة لهذا الأمل. وبلهجة المنتصر كان يمكن لرئيس الحكومة رجب طيب أردوغان أن يفتح صفحة جديدة مع المعارضة لحل المشكلات الرئيسية لتركيا وفي مقدمها المشكلة الكردية. غير أن ما بان في المشهد الداخلي كان مختلفا وغرقت تركيا في دوامة العنف والعنف المتبادل بين جيشها وحزب العمال الكردستاني ولم ينفع زلزال "فان" كثيرا في تليين المواقف والإحساس بوحدة مصير مشتركة بين الأتراك والأكراد فشمت بعض الأتراك بالزلزال الذي أصاب مناطق تسكنها غالبية كردية وعادت بعد ذلك النبرة العالية في الخطاب المتبادل بين حزب العدالة والتنمية وحزب السلام والديمقراطية الكردي. واليوم لا أحد يعرف إلى أين تتجه تركيا في هذه المسألة. مسألة أخرى تلقي بظلالها على المشهد الداخلي التركي وهو التضييق على الحريات العامة واعتقال العشرات من الأشخاص والكتّاب بتهمة دعم "إرهاب" حزب العمال الكردستاني. والمعتقلون السياسيون هؤلاء هم من رؤساء بلديات ومسؤولي فروع حزب السلام والديمقراطية الكردي الممثل في البرلمان. كذلك من كتّاب وباحثين لهم وزنهم على الساحة الفكرية. وغالبا ما يتلقى آخرون رسائل تهديد مبطنة بحيث استعادت تركيا من جديد مناخات التسعينيات من القمع والضغوط على الحريات الفكرية. وفي المشهد الخارجي يلحظ زائر تركيا ارتباكا ملحوظا في كيفية التعامل التركي مع الملفات الإقليمية الساخنة. يسمع الزائر وبخلاف ما يرى من الخارج كثيرا من الكلام على تراجع الدور التركي في المنطقة. وإذا كان الموقف التركي قد أعلن وقوفه إلى جانب الثورات فإن هذه الثورات كانت تعلن عن وقائع جديدة مثل بدء استعادة مصر لدورها الإقليمي. حيث أنجزت انتصارين مهمين هما المصالحة الفلسطينية وصفقة الأسرى بين حماس وإسرائيل. والغائب الأكبر كان الدور التركي الوسيط الذي كان يبرع في مثل هذه الحالات. أيضا إذا نجحت الجامعة العربية برئاسة قطر في حمل ملف الأزمة السورية إلى بر الأمان تكون قد أعادت للدور العربي بعضا من هيبته المفقودة. في حين أن تركيا، التي كانت الصديق الأقرب لسوريا، في حكم الغائبة وكأنها غير موجودة. وهنا ينقل العديد من الباحثين والدبلوماسيين الأتراك المتقاعدين مناخا سلبيا لجهة تراجع تأثير الدور التركي ولاسيَّما في الأزمة السورية. ويرى وزير خارجية سابق أن تركيا أخطأت في عدم تقدير التعقيدات المختلفة في سوريا كما تعقيدات الوضع الإقليمي. وبأن الرئيس السوري أقوى مما تظنه أنقرة. ومن أخطاء السياسة التركية تجاه سوريا أنها رفعت سقف التوقعات كثيرا. واتبعت أسلوبا غير متوازن في التعامل مع بلد مجاور ومهم. وقد قطعت الخيوط وأحرقت الأوراق مع النظام السوري في حين أن دولة صغيرة مثل قطر نجحت كما يبدو بالفعل من ممارسة الدور الذي كان يجب أن تلعبه تركيا وشتان ما بين تركيا"القوة الإقليمية العظمى" وبين قطر"الإمارة الصغيرة". ويرى البعض أن تركيا لم تمارس سياسات واقعية تأخذ في الاعتبار المفاجآت والانقلابات المحتملة بحيث يمكن لتركيا أن تعيد وصل الخطوط تبعا للتوترات الحاصلة. وحدث أن النظام السوري كان أقوى من الضغوطات خصوصا في منظومة علاقاتها الإقليمية. فبات على تركيا إما إعادة النظر في نهجها تجاه السوريين وهذا لم يحصل وإما اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام ومنها التصعيدات والتهديدات اليومية التي يطلقها مسؤولو حزب العدالة والتنمية. كما يسمع الزائر إلى تركيا كثيرا من الكلام على انتقال تركيا من سياسات وسطية ومعتدلة ومقبولة من معظم العرب إلى سياسات غربية وأطلسية لا تنسجم مع هوية تركيا وشعارات الدفاع عن هوية المنطقة ووحدتها. "نحن بحاجة أكثر لكي تفهمونا"، قال لي أحمد داود أوغلو. والفهم برأيي، بالطبع يجب أن يكون متبادلا. وأن يشمل كل تعقيدات المنطقة وعلى كل المستويات. والأهم أن يبقى الباب مفتوحا أمام إعادة النظر بالسياسات وعدم حشر النفس في زاوية ضيقة تطلق العنان للصراخ من دون القدرة على الفعل. وتركيا نفسها بحاجة، برأيي، أكثر منا نحن لكي تفهمنا. لقد بقيت تركيا خارج التفاعل الحقيقي مع المنطقة على امتداد عقود طويلة وما يخشى هو أن يكون السلوك التركي لا يزال في طور التجريب والتعرف على المنطقة وهذا يقتضي في الحد الأدنى سياسات حذرة ومتحفظة ومعتدلة لا تقتل الذئب ولا تفني الغنم.