13 نوفمبر 2025
تسجيلفي الماضي تعهد السياسيون بخلق عالم أفضل، عبر الأيدلوجيات والخطابات الشعبوية والأحلام الكبرى. ولكن بعد أن فشلت هذه الأحلام، وفقد الناس إيمانهم بالأيدلوجيات، اكتشف السياسيون دورا جديدا يعيد لهم قدرا من سلطتهم وقوتهم المفقودة، فبدلاً من تحقيق الأحلام، يتعهد الساسة حاليا بحماية الناس من الكوابيس، فهم يدعون أنهم سيحمون الناس من أخطار مروعة، لا يمكن رؤيتها وبالأحرى لا يمكن فهمها، وأعظم هذه الأخطار هو الإرهاب، والذي يمثل شبكة قوية وشريرة، لديها خلايا نائمة في كل مكان في العالم، يتعين مقاومتها بحرب ضد الإرهاب. وبفعل هذا الدور الجديد أصبح من يقدرون على إثارة أسوأ المخاوف هم الأكثر قوة. الفقرة السابقة هي مقدمة السلسلة الوثائقية المهمة "قوة الكوابيس"، والتي أنتجتها قناة البي بي سي البريطانية عام 2004، والتي يبدو مضمونها صحيحا بعد مرور عشر سنوات على إذاعتها لأول مرة، فمازال هناك سياسيون يوظفون مشاعر الخوف لدى الناس لتحقيق أغراضهم. وربما لا يصدق ذلك حاليا أكثر مما يصدق في مصر، ففي أعقاب انقلاب الثالث من يوليو، برر الانقلابيون فعلتهم بفشل النظام الشرعي في تحقيق أهداف الثورة، ولكن نظام الانقلاب سرعان ما اكتشف عجزه عن أن يقدم للناس أي جديد، كما ارتكب من الأخطاء في شهور معدودة أكثر مما ارتكب النظام الشرعي في عام كامل، فما كان من سلطة الانقلاب إلا أن تحولت عن سيناريو الآمال والوعود إلى سيناريو صناعة الخوف. فمن خلال الخوف يمكن أن ينسى الناس أحلامهم، ويكتفون بالحماية التي يعدهم بها الطرف القوى، والذي يطرح نفسه كمخلص ومنقذ لهم من المخاطر التي أقنعهم أنهم يتعرضون لها. أما العفريت الذي اختار الانقلابيون أن يثيروا فزع الناس منه فقد تمثل في جماعة الإخوان المسلمون، وتم تجنيد الإعلام ومؤسسات الدولة العميقة لتنفيذ مخططهم القائم على تصوير الفترة التي قضاها الإخوان في الحكم على أنها كانت بمثابة فترة احتلال أجنبي. ولتفعيل هذا المخطط تم إلصاق كافة الجرائم التي ارتكبت منذ الانقلاب إلى الإخوان، ورغم أنه لا يوجد دليل مباشر على مثل هذه الاتهامات، فإن الرسالة الإعلامية تلح على أنه حتى لو لم يقم دليل مباشر على قيام عناصر الإخوان بهذه الأعمال الإرهابية فإنهم لابد وأنهم هم المحركون السريون لها. ولكن إعلام الانقلاب وهو يصنع صورة الإخواني الإرهابي بالغ قليلا! فقد صور الإخوان كما لو كانوا ليسوا من فصيلة البشر العاديين، وإنما شياطين لا يستحقون إلا القتل. فهم يتظاهرون بالسلمية ولكنهم يتنفسون الإرهاب، وهم أساس الشر الذي ابتلي به المصريون، وهم بذرة الانقسام التي زرعها الاستعمار لينشر الدمار والفرقة بين المصريين، فهم ما تواجدوا في مجتمع إلا قسموه على نفسه توطئة لتسليمه إلى يد أعدائه. والخوف من الإخوان — كما يروج له في إعلام الانقلاب — قرين بالخوف على الوطن من أن يتفكك أو يضيع أمام سيل المؤامرات والخطط والاتفاقات السرية، وكيف لا وقد كان الإخوان هم كلمة السر في انفصال جنوب السودان، وهم وراء تقسيم فلسطين، وكانوا طوال فترة وجودهم في السلطة يجهزون لفصل سيناء عن مصر، وبيع حلايب وشلاتين، وإيقاع الخراب والبؤس بالغالبية الغالبة من الشعب المصري المسالم. فهم رعاة المؤامرة الكبرى، مخططو الفتنة، زارعو الشر حيثما حلوا! والسرية — وفقا لسيناريو صناعة الخوف — لصيقة بالإخوان فهناك التنظيم الدولي العالمي للجماعة وهناك الأذرع الإخوانية المتغلغلة في كل مكان حتى في البيت الأبيض والموساد الإسرائيلي، وهناك الأصول الماسونية للإخوان، وعلامة رابعة التي يحتفون بها أكبر دليل على ذلك، فهي علامة ماسونية صريحة، وما الأصابع الأربعة إلا علامة الشر المعبرة عن الرغبة في السيطرة على العالم تمهيدا — ربما — لقدوم "المسيح الدجال الذي قد يتضح أنه المرشد العام الأعلى للجماعة". الإخوان وفقا لهذا السيناريو الخارق هم أسوأ من إسرائيل، كما أن التهديد الذي يمثلونه يفوق تهديد السياسيين المتعنتين في إثيوبيا، ويتعدى بمراحل الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالاقتصاد المصري، والمؤامرة الأمريكية للفوضى الخلاقة. فبعد رحيلهم عن السلطة هدأت الأصوات التي كانت تؤكد على أن إسرائيل سوف تصدر مشاكلها في قطاع غزة إلى سيناء، كما اختفى القلق من سد النهضة وحل محله التفاؤل بالآثار الإيجابية التي يمكن أن تترتب على إنشائه، ولم تعد الأزمة الاقتصادية أو تخفيض المستوى الائتماني بنفس الفظاعة التي كانت تثار بها أيام الرئيس محمد مرسي، وفقدت أمريكا قدرتها على تفعيل سيناريو الشرق الأوسط الكبير، الذي كان الإخوان بطبيعة الحال هم حجر الزاوية في تنفيذه. ورغم سذاجته المفرطة يمكن القول إن سيناريو الانقلابيين لصناعة الخوف قد نجح نجاحا جزئيا، فقطاع كبير من المصريين تقبلوه واقتنعوا به، ووافقوا على ما يترتب عليها من ضرورة التخلص من الإخوان والقبول بالبديل العسكري لحكمهم. وقد بلغ النجاح حد أن تجرد البعض من عواطفه الإنسانية ومارس التشفي الوثني بمناسبة سقوط الضحايا بالمئات منهم في مذابح الفض الشهيرة. إلا أن الممارسات الخاطئة المتراكمة للنظام الانقلابي، قد ولدت أملاً في إعادة كثير من الناس لصوابهم، فقد تبين أن شماعة الإرهاب لا تؤدي الغرض، وأن الإخوان رغم أخطائهم السياسية الكثيرة ليسوا التجسد الأوحد للشر كما يحاول الإعلام أن يوهم. صحيح أن أداء الجماعة قد اتسم بالسذاجة وهم في الحكم وبالشعبوية وهم خارجه، ولكنهم بطبيعة الحال مواطنون طبيعيون، لا يقلون وطنية عن غيرهم، ولا يصل تعثرهم السياسي بهم إلى درجة خيانة الوطن، بل إن أخطاءهم إذا ما قورنت بأخطاء غيرهم من الفصائل السياسية سواء التي استعانت صراحة بالعسكر، أو طلبت من الخارج التدخل، تبدو داخل الحيز المقبول. صناعة الخوف إذن سيناريو محكوم عليه بالفشل، لأن من يستخدم ضدهم هذا السيناريو بشر من نسيج المجتمع المصري، وسوف تظهر الأزمات التي يتسبب فيها الانقلابيون، أن ما يجمع الإخوان بغيرهم من المصريين أكثر مما يفرقهم، وبخاصة إذا ما تصرف الجميع على أساس عقلاني مشترك من رفض عودة الدولة الأمنية التي ثار عليها المصريون جميعا في 25 يناير 2011.