07 نوفمبر 2025

تسجيل

رهانات روسيا في المنعطف السوري الأخير

04 يونيو 2012

بددت روسيا كل الآمال التي توقعت منها أن تتخذ موقف دولة كبرى وأن تتحمل المسؤولية على النحو الذي يمكن أن يحقق، على الأقل، وفقاً للنزيف المستمر في سوريا، فهي تقف بفظاظة إلى جانب النظام الذي أثبت فشله في إعادة الأوضاع إلى طبيعتها، وباتت روسيا شريكته المباشرة في دفع الأزمة إلى حرب أهلية لن يتغلب فيها أي طرف، إلا أنها ستضع وحدة سوريا شعباً وأرضاً ودولة على محك الانقسام. تخطط موسكو، متأخرة جداً، للدعوة إلى مؤتمر دولي. وفي نيتها أن تبدل الاصطفاف في إطار "أصدقاء الشعب السوري"، إلى محور يكون ظاهره محايداً وحقيقته محاولة أخيرة لإنقاذ النظام، ويبدو أن موسكو تريد تمرير مثل هذا المؤتمر وكأنه في سباق دفع خطة المبعوث الدولي-العربي كوفي أنان إلى التنفيذ، خصوصاً في بندها المتعلق بـ"إطلاق عملية سياسية شاملة"، وبذلك تستكمل عملية المصادرة لخطة أنان كما بدأت مع دمشق منذ اللحظة الأولى لإطلاقها. ليس مؤكداً أن موسكو ستنجح في هذا المسعى مكشوف الأهداف، لكنها تقدم عليه بمنحى ابتزازي واضح، إذ تخيّر مختلف الأطراف بين هذا المؤتمر وبين الذهاب بالتأزيم إلى أقصاه، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات تفجيرية في المحيط الإقليمي لسوريا، كان بإمكان روسيا أن تطرح فكرة هذا المؤتمر غداة "الفيتو" الأول الذي شهرته مع الصين في مجلس الأمن. إذ كانت آنذاك لا تزال تتمتع بشيء من المصداقية، ولم تكن مواقفها ومراميها انكشفت كما هي الآن، بل كان هناك من يتفهم وجهات نظرها الداعية إلى امتناع القوى الخارجية عن مفاقمة الأزمة، أكثر من ذلك ظن كثيرون أن موسكو يمكن أن تلعب دور الوسيط النزيه، وأنها تريد فعلاً إظهار الفارق مع المقاربات الغربية-الأطلسية، أما وقد انفضح انحيازها الكامل إلى نظام بات منبوذاً دولياً. وأصبح سياسة إبادة منهجية، فإنها فقدت إمكان التوسط لتكتفي بمد عمر النظام من دون أي جدوى لبقائه. دول الغرب تتحمل مسؤولية مثلثة الأبعاد، فهي أولاً عجزت عن مساعدة الشعب السوري وتأخرت في الاعتراف بعجزها الذي ظهر جلياً في مجلس الأمن، وهي تلكأت، ثانياً، ولا تزال تتلكأ في بلورة تفاهم مع روسيا على حدود ما هو مقبول وغير مقبول في سوريا، حتى انتهى بها الأمر إلى وضعية غامضة فلا هي في تناقض صريح مع روسيا ولا هي في حال صراع معها، وبالتالي أعطتها الوقت والمجال للتلاعب بالمعالجة الدولية للأزمة، ثم أنها مسؤولة، ثالثاً، عن التغول المتفلت للنظام السوري، إذ سكتت طويلاً على ممارساته الوحشية ما شجعه على الاستمرار في العنف، موقناً بأن أحداً لن يتعرض له ولن يستطيع محاسبته وها هو ينتقل أخيراً من مجرد القتل إلى تنظيم عمليات تطهير مذهبي متعمد لتغيير الطبيعة السكانية لبعض المناطق، وذلك بهدف وصل مناطق معينة ببعضها بعضاً في إطار رسمه لخريطة "دويلة علوية" لابد أن روسيا تعلم بأن يخطط لها، ولا يعني سكوتها عنه سوى موافقة على سيناريو تقسيمي لا ريب فيه، ولم تكن مجزرة الحولة رد فعل عفويا على حادث محلي، بل أن القتل المتعمد بهذه الطريقة وتكرار القصف على البلدة بعد المجزرة استهدف إكمال تهجير السّنة الذي بدأ في حمص وإذ تقع الحولة في الريف الغربي للمدينة فإنها تشكل عقبة أمام اتصال القرى العلوية المتاخمة لها بـ"الدويلة"، التي صارت بالنسبة إلى النظام أشبه بهدف استراتيجي. في أكثر من مناسبة أكد الأمريكيون أنهم في حوار لم ينقطع مع الروس بشأن سوريا، وكان مفهوماً أن مهمة كوفي أنان انطلقت مسلحة بدعم أمريكي-روسي، لكن لم يطل الوقت حتى تبين أن هذه المهمة لم تتمكن من إحداث أي تغيير في مجرى الأزمة، بل صارت سريعاً تحت رحمة تفاهم روسي-سوري على حدود ما يسمح لها أن تحققه، لذلك تشوشت الصورة ولم يعد مفهوما إذا كان الحوار الأمريكي-الروسي يريد فعلاً هذه النتيجة أم أن مهمة أنان خرجت عمليا عن سيطرة مجلس الأمن الذي يفترض أنها تعمل بتكليف منه. لكن يبدو أن الأمريكيين أنفسهم فوجئوا بأن الروس لا يملكون أي تصور لوقف العنف ولا للحل السياسي. ففيما ظلت واشنطن تتحدث عن "نقل سلمي للسلطة"، واظبت موسكو على التحذير من "أوهام" السعي إلى تغيير النظام. هناك احتمال من اثنين قد يبدوان متعارضين لكنهما لا يلبثان أن يلتقيا في نهاية المطاف، فإما أن واشنطن موافقة تماماً على الطريقة الروسية في إدارة الأزمة السورية بما فيها من مخاطر، طالما أنها تؤمن لها غطاء للتهرب من أي مسؤولية، وإما أن واشنطن استنتجت أن روسيا غير قادرة على التأثير في خيارات النظام، ولذا فهي تتركها تتصرف مع علمها بالمخاطر والنتائج التي ستترتب عليها. فإذا كان تفتيت سوريا إلى دويلات هو ما سيحصل، فلاشك أن واشنطن وإسرائيل لن تتصديا لذلك بل تشجعانه، خصوصاً أن روسيا هي التي تتلبس المسؤولية. تقاطعت معلومات عدة مفادها أن الروس حددوا أهدافاً ثلاثة لأي تفاهم على إنهاء الأزمة، أن يحتفظوا بقاعدتهم في طرطوس، وأن تكون لهم كلمة في الحل السياسي المحتمل، وأن يضمنوا ديونهم العسكرية المترتبة على دمشق، وفي ضوء السياسة التي يتبعونها فإنهم لا يضمنون أياً من هذه الأهداف، لكن كل شيء يصبح ممكناً إذا طرحوا أي صيغة يحترمون فيها الشعب وإرادته، وإذا أنهوا رهانهم على نظام ماضٍ في التخريب لعلمه أنه خاسر.