15 نوفمبر 2025
تسجيلفي منتصف القرن التاسع عشر، شاعت عبارة "رجل أوروبا المريض" للإشارة إلى الإمبراطورية العثمانية في مرحلة ضعفها، حيث اعتبر الغربيون وقتها أن دولة الخلافة قد أصبحت مصدرا للمشاكل والأزمات بعد أن غرقت في الديون وتوالت عليها الهزائم العسكرية، وأنه لا حل إلا التخلص منها عبر تقسيمها بينهم.وبالفعل تفككت دولة الخلافة، ولكن سرعان ما ظهرت حركات إسلامية مستقلة في أرجاء العالم الإسلامي في محاولة لسد الفراغ الذي أحدثه غياب الرابطة السياسية بين دول المسلمين. وقد تفاوت أداء هذه الحركات صعودا وهبوطاً إلى أن وصلت إلى قمة أدائها السياسي في أعقاب الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي عندما تمكنت من الوصول إلى سدة الحكم أو كادت، في عدد من الدول، قبل أن تزاح بالقوة من صدارة المشهد السياسي وتتوالى عليها هي الأخرى الهزائم السياسية والنكبات.وفيما يبدو أنه إعادة لمشهد تاريخي قديم، بدأ من يمثلون الامتدادات الفكرية للغرب في المشرق يتناقلون تحليلات تحمل نفس المعنى القديم، وهو أن هذه التيارات الإسلامية قد أصبحت هي الأخرى رجلا مريضا، يتعين التخلص منه والبدء في وضع التصورات المناسبة لإعلان وفاته. حملة هذه الدعوى من النخب العلمانية يدعون أن التيارات الإسلامية بحالتها الحالية أصبحت غير قابلة للدمج داخل أي نظام سياسي، وأنها غير متوافقة مع قيم الدولة الوطنية الحديثة. كما يصرحون أن تيارات الإسلام السياسي في مجملها تعاني معضلة مع فكرة الحداثة وتجلياتها المختلفة خصوصا ذات الطبيعة السياسية. أما الحل الذي تطرحه هذه النخب للتعامل مع هذا الوضع فيتطابق بدوره مع الحل الذي طرحته القوى القديمة، من ضرورة تفكيك هذه التيارات والعمل على إيجاد بدائل مستأنسة لها، يتم الاحتفاظ بها تحت مستوى معين من القوة والفاعلية.وقد مثل "رجل أوروبا المريض" قديما مشكلة لأنه رغم مرضه احتفظ بقدر كبير من عوامل قوته، الأمر الذي حال بين أعدائه وبين إمكانية القضاء المباشر عليه، ولذا كانت حالته تناقش في إطار ما كان يعرف بالمسألة الشرقية "Eastern Question". الأمر نفسه حاليا فيما يتعلق بالتيار الإسلامي حيث يوصف بأنه "أضعف من أن ينتصر ويفرض كلمته، لكنه أيضاً أقوي من أن يتم استئصاله أو تجاهله". وعناصر القوة التي ترى النخب العلمانية أن التيار الإسلامي ما زال يتمتع بها تتمثل في "جاذبية أفكاره الدينية بالنسبة لقطاعات شعبية واجتماعية معتبرة". ويرى هؤلاء أنه "طالما ظلت هذه الأفكار والاعتقادات الدينية موجودة بشكل مركزي في الثقافة والوجدان الجمعي، طالما ظلت التيارات الإسلامية هي التيارات السياسية الوحيدة القادرة علي طرح نفسها أيديولوجيا وتنظيميا". وعليه فإن قوة التيار الإسلامي من وجهة نظر خصومه، لا ترجع لنجاحه الداخلي، ولكن لأن ثمة معطيات من الفشل تحيط به وتبرر استمراره. أما عناصر ضعف أو فشل التيار الإسلامي من وجهة نظر خصومه فتتعلق بكونه يقدم أفكارا وتصورات سياسية عن الدولة (المواطنة، التعددية، وظيفة الدولة، علاقتها بالمجتمع، بنية الاقتصاد، دور المؤسسات)، تختلف مع التصورات الحداثية، الأمر الذي يعد من وجهة النظر الناقدة إفلاساً وعجزا عن التواؤم مع مشكلات العصر.ويرفض العلمانيون محاولات جمع التيارات الإسلامية بين مظاهر الحداثة وقيم التراث، فالإجابة عن مشكلات العصر وفقا لهم يجب أن تكون حدية؛ إما حداثة مطلقة، وإما لا. أما محاولة التوفيق بين مقولات الحداثة والتراث، فينظرون إليها على أنها نوع من الترقيع، وعليه فإن فكرة الدولة القومية لابد وأن تكون الصياغة الوحيدة المطروحة، أما امتلاك أي تصورات عن فكرة الخلافة والأمة فيدخل في إطار الارتباك الذي يتهم العلمانيون تيارات الإسلام السياسي به.كما تعيب الأصوات العلمانية بشدة الفكرة الأممية عند الإسلاميين، واعتبارهم أن الفكرة الدينية متجاوزة للحدود الوطنية، كما ينتقدون تأكيد الإسلاميين على فكرة أن السيادة العليا ينبغي أن تكون للشرع وليس للشعب، مثلما هو الحال مع الفكر الحداثي. ويضيف التحليل العلماني إلى ما سبق اتهامات متعددة من قبيل "افتقار الإسلاميين إلى الخيال السياسي، والصلف الذي يصور لهم دائما أنهم يمتلكون «الحقيقة»، والزهو بقوة تنظيماتهم واتساع أرضيتهم الشعبية، وإحالتهم الدائمة لتجارب قديمة، لم يُتَح اختبارها فعليا في الزمن الحالي".بطبيعة الحال لم يكن اتهام الغربيين للدولة العثمانية بأنها صارت رجلا مريضا اتهاما منشئا، ولكنه كان بدرجة كبيرة اتهاما كاشفا، صحيح أن الدول الغربية أسهمت في هذا الإضعاف، ولكن دولة الخلافة كانت قد احتوت على كل مقومات الانهيار، الذي انتظر فقط أن يعلن عنه بشكل علني. الشيء نفسه يمكن قوله فيما يخص جماعات الإسلام السياسي المعاصرة، فهذه تحتاج إلى مراجعات كثيرة لتطوير رؤية ذاتية متسقة ومتجانسة، وقادرة على العبور بهذا التيار والمنتمين إليه الأزمة التي يعيشونها في هذه المرحلة، وذلك بغض النظر عن تحامل الانتقادات العلمانية الموجهة ضدها، وبغض النظر عن حقيقة أن هذه النخب العلمانية نفسها كانت أحد العوامل التي أسهمت في فشل تجربة الإسلاميين السياسية وعدم اكتمالها. فالقضية الآن لم تعد الفوز في السجال مع التيارات الأخرى، وإنما في تحاشي ما تحاول هذه التيارات أن تدفع التيار الإسلامي إليه من مصير يشبه مصير رجل أوروبا المريض.