10 نوفمبر 2025

تسجيل

الشخصية العربية الإسلامية المعاصرة: ما ملامحها؟ ( 1-3)

04 فبراير 2011

القارئ المدقّق لتاريخ الأمة الإسلامية يستطيع أن يحكم بسهولة على الحقبة التي يعيشها المسلمون حالياً، بأنها حقبة تتميز بالضعف المذهل، والتخاذل المرير، والهوان الذي قلّمَا مرّت به الأمة على مدى تاريخها الطويل. فقد ذاقت الأمرة مرارات الهزيمة العسكرية مراراً، ولكنها لم تبلغ الحد الذي بلغته الان من الشعور بالضياع والإحباط والقهر باستثناء مرات قليلة معروفة في تاريخها. وإذا كان جوهر الإسلام – ممثلاً في نصوصه وثوابته العقائدية والتشريعية - لا يتغير وفقاً لظروف انتصار أو هزيمة، فإن الشيء الذي تعير لا يتعدّى أولئك المسلمين الذين يتبعون هذا الدين فيأخذون منه ويتركون وفق أهوائهم، لا وفق ما أراد الله تعالى منها. وهم في أخذهم وتركهم وفق أهوائهم يتأوّلُون النصوص ويطوّعُونها؛ ليتخذوا منها ساتراً لرغباتهم، وغطاءً لنزعاتهم، فإذا ردّهم أحد إلى الحق رموه بالمروق والشذوذ والإرهاب وإثارة الفتن. ولنستمع إلى القران الكريم وهو يشخص لنا حالة فئة من الناس فيقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الْطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقُونَ يَصُدُّونَ عَنكَ صٌدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاْللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسِانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُوْلَئِكَ اْلَّذِينَ يَعْلَمُ اْللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اْللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أُنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاْسْتَغْفَرُوا اْللهَ وَاْسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اْللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65)} [النساء].ولنسأل أنفسنا الان: هل لهذه الفئة وجود في أمة المسلمين اليوم؟، وكم يبلغ عددهم أو نسبتهم؟، ومن المسؤول -الان- عن إصلاح حالهم بأن يعظهم، ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً؟ ثم ما أثر لغة هذه الايات (يريدون – يريد الشيطان – إن أردنا – في أنفسهم) في بناء دلالاتها التشريعية والتربوية؟.إن تكرار تعبير {فِي أَنْفُسِهِمْ} مرةً عند الأمر بإصلاح أحوالهم، ومرةً عند التعقيب على إظهارهم قبول حكم الشرع. فيه دلالة على أن الإسلام يُولِي النّفس الإنسانية اهتماماً كبيراً، ويراها –في جميع أحوالها- مناطَ المسؤولية، ومصدر السلوك، والأوْلَى بالإصلاح. وهل الشخصية الإسلامية – فردية كانت أو جماعية - إلا النفس المسلمة أو مجموعة النفوس؟!، لذلك يحسن بنا، ونحن في سبيل تناول الشخصية الإسلامية أن نمهِّد لهذا التناول: لا بالإغراق في تفاصيل تعريفات لا طائل من ورائه، ولا بالإسراف في تحديد مفاهيم كلمة (أبعاد) التي وردت في العنوان. فذلك ترفٌ أو شرفٌ لا حاجة إليه فيما نعتقد. ولندخل مباشرةً إلى "مربط الفرس" كما يقول العرب.وذلك أن الأمة الإسلامية لا تنطبق عليها في عصرنا هذا حالة الرّوم حين هزموا اليونان وانتصروا عليهم واحتلّوا أثينا، لكن ثقافة اليونان وعلمهم وحضارتهم بهرت الروم؛ فانكبّوا عليها نقلاً وهضماً وترجمة وتقليداً وتأثراً. حتى صارت ادابُ روما وفنونُها وفلسفتُها ونقدُها صورة شوهاء من اداب الإغريق وفنونهم وفلسفتهم ونقدهم.ولم تتحقق فيهم نظرية ابن خلدون الشهيرة "إن المغلوب مولعٌ دائماً بتقليد الغالب!". فقد قلّد الرومان المنتصرون الإغريق المهزومين وعاشوا قروناً ثلاثةً أو أكثر وهم على هذه الحال.والأمة الإسلامية الان مولعةٌ بتقليد الغرب، ولكنها لم تنتصر عليه انتصاراً عسكرياً كما فعلت الروم. بل انهزمت أمامه هزائم عسكرية متتالية في كل صِقْعٍ من أصقاعها حين خضعت للاستعمار سنوات طوال حتى إذا خرج وخلَّفها: خلّفَهَا أمةً مهزومةً من الداخل، أمة تشعر بالهوان والدونية والانسحاق والتبعية وانعدام الوزن، ونجح الاستعمار في أن يصنع له في بلدان المسلمين صنائع من رجال خونة تولّوا تكملة رسالة المستعمرين في الإذلال والقهر النفسي للأمة، ووُضع هؤلاء الخونة على رأس مؤسسات الدول الإسلامية في مجالين رؤي أنهما من أخطر المجالات وهما: الإعلام والتعليم، لأنهما المجالان اللذان يوكل إليهما أمر النشء من جهة، وأمر الرأي العام من جهة ثانية.وقد نهضت هاتان المؤسستان (الإعلام والتعليم) بما أنيط بهما شرّ نهوض، فباعدت المؤسسات التعليمية بين الشباب المسلم وبين دينه على خير ما يرجو المستعمر، وابتدعت لنفسها ديمقراطية شديدة الشذوذ، فهي تفرض على المتعلم زيًّا وطعاماً وشراباً ونظاماً للوقوف والجلوس والكلام والسكوت والحركة، على نحو صارمٍ لا مجال فيه للحرية أو التعبير عن الرأي.وهي حين ترسم الرسوم، وتمنهج المناهج، وتحدد طرائق التدريس وأوقاته، وحين تحدد الغيابَ والحضور، والنجاح والرسوب، وما يلزم للنجاح من درجات، وما يلزم للمتعثرين من إصلاح. لا تعود في ذلك كله إلى المعلم ولا إلى المتعلم إلا إذا قيل لها من سلطة أعلى : "عودي" ! ، فتعود صاغرةً مكرهةً مفرّغةً لهذه العودة من كل مضمون!!، ثم هي تسعى سعياً حثيثاً إلى التبرؤ من كل ما له صلة صريحة بالإسلام.وفي الجهة الثانية، وعلى التوازي مع مؤسسات التعليم، تسعى المؤسسات الإعلامية إلى تغريب ثقافة المجتمع، فهي تبثّ من الأفلام ما تفرق به بين المرء وزوجه، وبين الأب وأبيه، والأخ وأخيه، وفتزيّن الأفلام من الشر ما قبّحَهُ الإسلام، وتهيئ من الانحراف ما يكون مدعاةً للتقليد. وتهوِّن من جرائم الزنا والقذف والغيبة والقتل والإدمان والرشوة والاختلاس؛ حتى صارت كل تلك الجرائم مما لا يقشعر له بدن مشاهد، ولا تهتز له نفسُ سامع؛ فشاعت الفواحش وذاعت. ولم تقف مؤسسات الإعلام عند حدود الأفلام والمسرحيات والمسلسلات، بل إن الأغاني جميعاً صارت وسائل لتيسير تواصل العشّاق، فكأن مهمتها أن تلقّنهم ما يقول بعضهم إلى بعض إذا خلوْا أو إذا التقوْا. وإضافة إلى ذلك توسّع الإعلام في نشر فنون الرسم الخليع، والرقص تحت مسمى الفن حتى كتبت "أخبار اليوم" ذات مرةٍ في السبعينيات على لسان راقصةٍ هلكتْ قولها: إنها ترى أن "الرقص صلاة"!!.وقد نجم عن هذين الطوفانين المنهمريْن على الأمة إفساداً وتخذيً أن صار الدين غريباً كأشد ما يكون غربةً في حياة الناس، وصار الذي يقول: {تَعَالَوْ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلّى الْرَّسُولِ} يبدو وكأنه مجنون يخاطب أسوياء، أو كأنه سويٌّ يخاطب مجانين وهو في كلتا الحالتين: غريب!!.ولم يقف المستعمر الراحل عند حدود الإعلام والتعليم، وإن كان بهما أشدّ عنايةً مما سواهما، بل اصطنع له عملاء يُفسدون في الاقتصاد، والقانون، والاجتماع، والاثار، والتاريخ، والسياسة؛ فصارت مناحي الحياة كافةً تعزف نغماً واحداً هو: الولع بالغرب واتخاذه أسوةً بكل ما فيه من خير وشر.ووقف علماء المسلمين مما يجري موقف الحائر المحنق المغيظ، وانقسموا إلى ثلاث فرق: فرقة أراحت نفسها بموقف الرفض التام للعصر وكل ما فيه من منكرات مستحدثة، وغرقت في تراثها فاكتفتْ به.وسميت إعلاميا : السلفية ، وفرقة قلبت ظهر المجنّ لدينها وتراثها وادّعَت التحضّر فطوّعت النصوص والأحكام لتوافق هوَى المستعمرين وأذنابهم، فوصفت بالاستنارة على حين وصفت سابقتها بالجمود والتحجر. وسميت إعلاميا : العلمانية أو التحررية ، وفرقة أرادت التوسط فقالت: نأخذ وندع، ونقبل ونرفض، وظلت تكرر ذلك دون أن تبين للناس ما يأخذون وما يتركون، فكان لها من حسن النية ستار غطَّى عجزها وقصورها. فكان الزاهدون فيها أكثر من المتعاطفين معها ، وسميت إعلاميا : علماء السلطة !!وإذا أردنا على ذلك دليلاً فلننظر في تراثنا العلمي المعاصر مما ندرّسُه في جامعاتنا: أليس كله ذا أصول غربية مادية؟، وهل قامت نظريات علم النفس التي يدرسها طلابنا في معاهد وكليات التربية على شيء من تراث العرب والمربين المسلمين؟، أم تقوم جميعاً على تجارب أجراها علماء الغرب على الكلاب والقطط والفيران والخيل والحمير والبغال، ومنها خرجوا بنظريات التعلم التي يراد لنا أن نطبقها على متعلمي المسلمين؟، وهل نجد للاقتصاد المعاصر جذوراً إسلامية تُدَرَّس في جامعاتنا؟، أم نجد لها جذوراً فيما قال به "ماركس" من صراع طبقي؟ وما قال به "مالتوس" من خرافات سكانية؟، وهل يدرس طلاب جامعاتنا في الاجتماع إلا ما قال به "دوركيم وماكس فيبر وسان سيمون وأضرابهم"؟ وجميعهم من الماديين الذين يفسرون الظواهر الاجتماعية تفسيراً مادياً بحتاً؟!.وما نراه في مجال التربية أشد سوءًا، فما زال طلابنا حين يدرسون تاريخ التربية وفلسفتها يتوقفون كثيراً أمام "جان جاك روسو" وكتابه "إميل" الذي اعترف فيه بأن راهب الكنيسة كان يغتصبه وهو طفل صغير، ويعاشره معاشرة الزوجة!!. أليس هذا هو رائد ما يسميه أساتذة جامعاتنا التربويون بالفلسفة الطبيعية؟!.أظن أن ما قدمته كافٍ لإبراز واقع الشخصية الإسلامية المعاصرة. ويمكن إجماله في كلام موجز خلاصته: "أن هذه الشخصية المسلمة المعاصرة تعاني كثيراً من التغييب والتغريب، وقد أسهمت في ذلك مؤسسات رسمية وغير رسمية؛ فأنتجت على مدى سنواتٍ طوالٍ أنماطاً من الشخصية تعاني من هشاشة الالتزام الخلقي، وضعف الانتماء الديني، والإحباط، والقهر، والشعور باليأس من النصر، والإحساس بالهوان، والضياع في عصرٍ يتسم بالقوة، وهي لا تملك من عناصر تلك القوة شيئاً تعتصم به".