15 نوفمبر 2025
تسجيلفي الوقت الذي كانت تركيا تحقق إنجازات مهمة على صعيد الانتقال إلى الديمقراطية الكاملة لا تزال التحديات التي تواجهها كبيرة جدا وتهدد مجمل خطوات الإصلاح. ولا تختلف تركيا في هذا المجال عن بقية العالم العربي والإسلامي لجهة التناقض بين مسارات متعددة. ففي نهاية شهر أغسطس أي قبل أيام قليلة كان الرئيس التركي عبدالله غول يسجل سابقة في تاريخ تركيا الحديثة حين كان هو نفسه يستقبل المهنئين بعيد النصر الذي يعتبر عيدا للجيش التركي وتخليدا للموقعة التي هزم فيها أتاتورك الجيش اليوناني في العام 1922. ومنذ ذلك الحين كان دور الجيش رئيسيا في الحياة السياسية. وإذا كان أتاتورك مؤسس الجمهورية هو الرمز الأعلى حينها سياسيا وعسكريا فإن رئاسة الأركان كانت هي لا رئيس الجمهورية في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الثلاثين من أغسطس الحالي هي المرجعية المباشرة لعيد النصر الكبير رغم أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. وكان الاحتفال بالعيد يتم في رئاسة الأركان أو البيت الحربي وكان رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء هم الذين يأتون لتهنئة الجيش بالعيد. غير أن المناسبة هذا العام كانت مميزة لجهة أن رئيس الجمهورية عبدالله غول بصفته القائد الأعلى للجيش هو الذي نظم الحفل في القصر الجمهوري وإليه جاء قادة القوات المسلحة ورئيس الأركان يقدمون التهنئة لقائدهم الأعلى، المدني عبدالله غول. وكم كانت معبرة تلك الصورة التي يبدو فيها غول منتصب القامة مستقبلا رئيس الأركان الجنرال نجدت أوزيل المنحني لرئيس الجمهورية. كانت صورة المرحلة الجديدة التي لم تعد تركيا فيها دولة الوصاية العسكرية ولا الديمقراطية العسكرية. بل دولة السلطة السياسية المنتخبة من الشعب والتي تعود إليه، بحسب أتاتورك نفسه، السيادة الوطنية. انتهى نظام الوصاية العسكرية نهائيا في 12 سبتمبر 2010 في الاستفتاء الشعبي المشهود. لكن استقالة قادة القوات المسلحة في أواخر شهر يوليو الماضي بدلا من ممارسة هوايتهم القديمة في القيام بانقلابات عسكرية طوي بالتجربة العملية تركيا ذات الوجه العسكري. وإذا أضيف إلى ذلك تنمية اقتصادية كانت السلطة السياسية تحقق إنجازين يسجلان لحزب العدالة والتنمية. غير أن الإنجازات لن تكتمل ما لم تتحقق التنمية السياسية المتمثلة في بعدها المتوازن فيما خص قضايا الحريات والحقوق الفردية وحقوق الجماعات القومية والدينية. تركيا الذاهبة بقوة إلى قطع يد النفوذ العسكري لم تنجح بعد في تغيير الذهنيات المتعلقة بحقوق الجماعات الإثنية أولا والحريات الدينية ثانيا. لذا نجد أن وزير الدفاع التركي يطلق قبل أيام تهديدات بأن كل الاحتمالات قائمة بالنسبة لمواجهة الإرهاب المقصود به حزب العمال الكردستاني. وإذا استذكرت تركيا تاريخ الصراع مع أكرادها فهو يعود إلى تسعين سنة خلت لم يتحقق أي شيء خلالها من الحقوق الثقافية التي يطالب بها الأكراد والتي يسعون من خلالها تحقيق هويتهم القومية وفي مقدمها التعلم باللغة الأم إلى جوار اللغة التركية الرسمية. لذا يتفاجأ المرء كيف أن معضلة مزمنة مثل الوصاية العسكرية يتم تجاوزها فيما لا تزال ذهنية الحل العسكري هي السائدة لحل المشكلة الكردية. وفي حين تدعو تركيا إلى إحلال الديمقراطية والحريات في الدول العربية التي تشهد ثورات فإنها نفسها مقصرة عن إحقاق ذلك تجاه المسألة الكردية. كذلك تواجه الحريات الدينية في تركيا قيودا شديدة بل إنكارا لبعض المجموعات المسلمة وغير المسلمة بحيث لا يمكن الحديث عن ديمقراطية جناحها الأول تقليم أظافر القوات المسلحة فيما جناحها الثاني مهيض بل مكسور، وهو ما يبقي تركيا في دائرة استنزاف القدرات وعدم الاستقرار ويهدد بتحويلها إلى بلد يحتاج بدوره إلى "ربيع" تركي خصوصا أن الموزاييك التركي لا يختلف بشيء عن الموزاييك العراقي أو السوداني أو السوري أو حتى المصري. فهل يعقل المسؤولون الأتراك أم يثبتون أن تركيا رغم كل إنجازاتها تبقى بلدا ينتمي إلى الجغرافيا المسلمة البائسة؟