07 نوفمبر 2025
تسجيلالناس يتساءلون وربما بمحض البراءة: لماذا يترك حسني مبارك مصر تحترق وأنفاسها تكاد تختنق والحل والبلسم بيده أو في كلمة تحت ضرسه؟ وهل لا يزال يراهن على الأمن المركزي الذين فروا من أمام أحرار الشعب المصري كالفئران المذعورة؟ ألا يرى كيف انفضّت عنه الفئة الذين كانوا ينصرونه فآثروا الهرب بالمليارات والملايين التي سرقوها وتركوه وحده في الحيص بيص؟ ألا يرى كيف قلبوا له ظهر المجن ليتحولوا بين عشية وضحاها من لصوص القطاع العام والخصخصة إلى دعاة تغييريين وإلى وعاظ ثوريين، وكيف يحاول كل منهم أن ينجو بنفسه؟ ألا يرى كيف تخلت عنه أمريكا، وكيف عجزت عن نصرته " إسرائيل "؟ وإذا صحت التسريبات التي تقول إنه يملك 37.5 مليار دولار سوى مليارات عائلته فماذا يريد أكثر من ذلك؟ وبمنطق القياس والاعتبار يعودون إلى الوراء قليلا فيقولون: لماذا لم يعتبر مما جرى لابن علي، ولماذا لم يتخذ خطوة التنازلات التي قدمها قبل فوات الأوان؟ والآن لماذا لا يترك الشعب المصري العظيم ليلملم جراحه بعد قتل المئات وجرح الآلاف واستغضاب الملايين؟ وماذا يفيده أن يبقى بضعة أشهر بعد ثلاثين سنة من الحكم والترؤس؟ ولماذا يضع نفسه تحت احتمال أن يهاجم مئات الآلاف قصره فتقع المجزرة التي لن تنتهي – إن وقعت – إلا بموت المئات وربما الآلاف وإن نالوه بعدها فهل يتصور ما سيكون حاله؟ أم لعله لا يدري ما يدور حوله؟ واتباعا لذلك يتساءل الناس: ثمة آخرون يعرفون أنفسهم ويعلم القاصي والداني أنهم على قائمة المطلوبين لشعوبهم ؛ لماذا لا يستفيد هؤلاء مما يجرى في مصر ومما جرى في تونس؟ ولماذا لا يتنبهون إلى طرف حبل النجاة الذي لا يزال في أيديهم أو قرب أيديهم؟ ولماذا لا يزالون يستبدون ويقهرون الشعوب؟ ولماذا يظنون أن الترقيعات التي يحاولونها سترضي أو تستغفل شعوبهم في حين يصمون آذانهم عن دعوات التغيير والإصلاح الجذرية التي يقدمها اليوم بالمجان المخلصون والأمناء؟ ألا يرى هؤلاء الذين تخلوا عن أمتهم وعن قضاياها ودخلوا على شعوبهم من الباب " الإسرائيلي " والأمريكي.. ألا يرون كيف أن كلمة أمريكا وحلفائها تخلفت؟ ألا يرون كيف لم تملك لحلفائها حتى بيت إيواء يلجأون إليه؟ ألا يرون كيف قامت أمريكا والغرب المنافق في لحظة الحقيقة بالتزلف على حسابهم للشعوب؟ أسئلة كثيرة تثور في الذهن وأجد أن إجابتها في ثلاث نقاط عاجلة ؛ أولا: قصة فرعون الأول ؛ الذي انتصر موسى عليه السلام عليه وعلى سحرته والذي بعد أن رأى المعجزات وشاهد السحرة ينحازون عنه.. لم يفهم " المسكين ؛ بل الغبي " أن دولة الأيام دارت عليه، ولم يتنبه لتغير خطاب السحرة وتغير اهتماماتهم وتغير نبرتهم من قول (أئن لنا لأجرا) إلى قول (فاقض ما أنت قاض).. راح " الغبي " يلاحق موسى عليه السلام والمؤمنين معه، ولعله كان يُمنّي نفسه أن يقضي على هؤلاء المعارضين ثم يعود في المساء إلى قصره وسلطانه يعاقر الخمر ويفترش الزنا.. ولو أنه ترك موسى ومن معه لحالهم وهجرتهم في سبيل ما آمنوا به لربما كان نجا ولربما نسيهم ونسيهم معه الناس.. خلافا لكل هذا ذهب بعيدا في معاندة الحق ومصادمة سنن الله تعالى فيحاول اللحاق بموسى.. ومرة أخرى يرى البحر ينفلق أمامه بعصا موسى حتى يصير (كل فرق كالطود العظيم) ولكنه مع ذلك لا يرتدع ولا يرتجع، بل يصر ثم يصر.. أليس ذلك ليخزيه الله ويمرغ أنفه بطين قعر البحر وليجعله لمن خلفه آية.. وعندما قال قولته التي كان يجب أن يقولها قبل ذلك بكثير: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) ألم يقل له الله تعالى (الآن وقد عصيت قبل) فهل أغنى عنه إيمانه أو قوله هنا شيئا.. هي إذن حكمة الله تعالى الذي يملي للظالم ويمهد له ويغريه بالمجازفة ويؤمله بالنصر " حتى إذا أخذه لم يفلته ". ثانيا: كل واحد من هؤلاء الذين لا يتلمسون طرف النجاة ولا يعتبرون بما يقع لغيرهم يظن أن حاله مختلف وأن الخطر هو فقط على غيره ويعول على قوة يرى أنه يختص بها، أو يعول على ضعف يتوهمه في غيره، أو ويظن أنه يستطيع استعمال كذا وكذا من التكتيكات والمناورات عند اللزوم.. هؤلاء يجب أن يتذكروا أن نظامي حسني وابن علي لم ينقصهما الدهاء ولا قوة البطش ولا تبني أمريكا و"إسرائيل " لهما، ولم يكن ينقصهما المشايخ والنخب الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، ولم يكن ينقصهما المعادلات السياسية التي يمكن اللعب بها.. على العكس من كثير من الأنظمة التي على قائمة الانفجار فقد كانا النظامين الأكثر استقرارا في المنطقة.. أليس في ذلك ما فيه من العبرة إن كان ثمة من يعتبر؟ ثالثا: يبدو أن طول فترة التسلط والظلم، واستمرار التغلب على الشعوب، وتكرار الأخطاء والخطايا مع السلامة من العقابيل والجرائر، وما ينتجه ذلك من موت الوازع الداخلي وفقدان الرادع الخارجي.. كل ذلك مضافا إلى وجود نخبة وبطانة سوء من الأشرار والمحيطين.. كل هذه التوليفة الفكرية والسلوكية والتنظيمية والانحرافية المستمرة ولعشرات السنين تجعلهم يحتقرون شعوبهم ولا يتصورون أنفسهم إلا زعماء عليها وقادة لها، وتجعلهم يفترضون أنهم إن أمروا فعلى الناس أن تأتمر وإن نهوا فعلى الناس أن تنتهي.. فتكبر شخوصهم على كل الجغرافيا بمرتفعاتها ومنخفضاتها، وعلى كل التاريخ بطوله وعرضه، وعلى كل الوطن بموالاته ومعارضته، وعلى كل الذوات والشعوب والإرادات.. فتصير المغامرة والتهور قوة ومدحة و " كاريزما " متوهمين أن الجرة ستسلم في كل مرة.. آخر القول: الشعوب إذا تحركت فإن في وجدانها الكثير من القناعات وفي مخزونها الكثير من المطاليب، وإن التعويل على البطش والتخويف لم يعد يجدي وبالأخص مع أجيال الإنترنيت والفيسبوك والتويتر والثورة الإلكترونية.. وما يرضي الشعوب قبل ثورتها ربما لا يرضيها مائة ضعفه بعدها..