11 نوفمبر 2025
تسجيلفي الحروب لابد أن يكون هناك منتصرون ومهزومون، لكن الحرب التي أقصدها لم تكن كذلك لأن طرفيها المتحاربين قد انهزما شر هزيمة، دون أن ينتصر أحدهما وينكسر الطرف الآخر، وقد كتبت هنا - في الشرق- عن هذه الحرب العبثية حين اندلعت واشتعلت نيرانها، وظلت نتائجها السلبية تلقي بظلالها السوداء والشوهاء على أرواح الناس لفترة من الزمان. إنها الحرب.. والشعب ينادي: يارب.. كان هذا عنوان المقال الساخر الذي نشرته الشرق لي يوم الخميس 26 نوفمبر سنة 2009 بعد اندلاع الحرب بين مصر والجزائر، وهي حرب مباراة كرة القدم التي شهدتها الخرطوم يوم 18 نوفمبر من تلك السنة، ومما قلته – وقتها - وبالحرف الواحد: أبصرت عيناي ملايين المصريين وهم يرفعون أكفهم للسماء، قائلين: يا رب. عبثت يداي بالريموت كونترول، فتسمرت عيناي عند مشهد ملايين الجزائريين وهم يرفعون كذلك أكفهم متضرعين وقائلين: يا رب. قلت لنفسي لا بد أنهم جميعا يستعدون للجهاد ضد الصهاينة القراصنة الذين يهددون بأن ينحروا القدس إلا إذا ركعت تحت أقدامهم باكية وهي تقول: أنا عاصمة أبدية لكم ولن أكون أبداً للفلسطينيين! سمعت في مصر قرع طبول جوفاء تتردد معها كلمات غباء من أفواه الغوغاء، وكلها تهتف: فلنستلهم روح أكتوبر، وسمعت قرع طبول في الجزائر لا تقل غباء، وكلها تهتف: هيا إلى الجهاد في السودان. أما ما أفزعني حقا فهو ترديد أغنيات وطنية حماسية، غناها مطربون كبار خلال حرب أكتوبر المجيدة سنة 1973و لكن لأن القائد الذي هدمت قواته الشجاعة خط بارليف قد اقتنع وحاول أن يقنع الناس أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، كان لابد لمن جاء بعده أن يقود حربا أخرى، بشرط ألا تكون بين العرب والكيان الصهيوني، وإنما بين الأشقاء الذين تحولوا في حالات عربية أخرى إلى أعداء، وكان لا بد أن يدعو القائد الآخر إلى الجهاد ولكن ليس في أفغانستان وإنما في السودان، وفي هذا فليتنافس القائدان العربيان، ولتحكم كرة مطاطية بينهما في الميدان! ولأني واحد من المتفرجين العرب من المحيط إلى الخليج، فإني أشهد للثوار العرب السابقين في كل من البلدين بأنهم قد نجحوا نجاحا عظيما في زيادة جرعات الإحباط واليأس التي يتعاطاها المواطن العربي الشريف والعاجز تماما عن فعل أي شيء في أي مجال من مجالات الحياة. هذا ما رصدته وكتبت عنه سنة 2009أي قبل أن تتفجر براكين الغضب في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا وسواها، لكني أحس الآن أن في الإعادة إفادة- كما يقولون - منذ أن فرضت على نفسي أن أتابع بعض القنوات الفضائية المصرية، لكي أتابع ما يجري من أحداث سياسية، فإذا بي أواجه بطوفان من الإعلانات التجارية عن أنواع مختلفة من الشيبسي والزيت والشامبو، وليس في هذا حرج بطبيعة الحال، لكن الحرج بل الكارثة تكمن فيما أقدم عليه مقدمو تلك الإعلانات التجارية، حيث قاموا بسرقة ألحان الأغنيات الوطنية التي كانت تهز وجداننا العربي عندما غنتها أم كلثوم، وعندما غناها عبد الحليم حافظ، وهكذا أصبح أمثالي من المخضرمين يستمعون الآن إلى كلمات تغنى في سياق تلك الإعلانات، من نوع: جاهز.. جاهز لأكل الشيبسي وقزقزة اللب، أما اللحن فهو لحن أغنية وطنية، كانت تقول: ملايين الشعب.. تدق الكعب وتقول كلنا جاهزين! هل يمكننا أن نبتذل أغانينا الوطنية إلى هذا الحد؟ الجواب: نعم، يمكننا أن نفعل هذا كله وسواه عندما تكون الأزمنة التي نحيا فيها أزمنة عبثية وفوضوية!