07 نوفمبر 2025

تسجيل

وجهة نظر .. في تقويم مسلسل عمر

02 أغسطس 2012

مع كل اعتبارات الإنصاف والاحترام لصانعي مسلسل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ومع كل الشك والعرفان لكل من أخرجوه إلى حيز المشاهدة والاستماع من علماء راجعوا النصوص إلى الكاتب والمنتج والمنفذ والمخرج وجميع الذين جسدوا شخصياته من فنانينا المحترمين إلى الفضائيات التي تبثه.. مع كل ذلك فإن هذا العمل يبقى عملا إنسانيا له مضمون علمي قصصي توثيقي تربوي تأثيري تنتابه الإجادة والإخفاق وتعتريه القوة في مواضع والضعف في مواضع، ويمكن النظر فيه ونقده وتصويبه.. ومن هنا يأتي تسجيلي هذه الملاحظات دون الحاجة لاستفاضة في سرد الأدلة والشواهد والنقول.. وأقول: بداية وقبل الحديث عن المسلسل مدحا أو قدحا لا بد من تقرير أن الفن والإبداع الإعلامي الجاد من إسلامي ووطني وثقافي قد بلغ حدا من الرواج والإنجاز ما ينسب له الكثير من نجاحات حركة النهوض والإصلاح التي نراها تترسم على أرض الواقع في صورة فكر متفوق وروح مقاومة وحرية ووطنية مبثوثة في وجدان شباب الأمة وأجيالها الصاعدة.. رأينا ذلك في الثورات العربية الحديثة حيث تتلاقح أفكار الثوار وتفتح آفاقهم على ثقافة الحرية ورفض الفساد والاستبداد.. ما انتهى لتغيير أوضاع بائسة استمرت عشرات السنين وكان يظن أن تغييرها أبعد من المستحيل.. هذا التقويم للفن.. يؤدي لحقيقتين أو نتيجتين ؛ الأولى: أن إصلاحيي الأمة وعلى رأسهم الإسلاميون في الأعم الأغلب يشعرون بالتصالح مع هذا الإعلام ومع الفن والإبداع الثقافي ؛ بل ويعولون عليه – بعد الله تعالى - لإعادة الاعتبار لكثير من حقائق الدين والاستقلال والشفافية.. التي ران عليها غبار الجهل والشبهة والمنع والعزل لفترات سبقت ظن ظانو السوء بالأمة أنها ستكون نهاية التاريخ.. الحقيقة أو النتيجة الثانية هي: الاقتناع بضرورة مراعاة الموضوعية والإحساس بالمسؤولية الكبيرة كمحدد أساس عند نقد أو رفض ما يعرض على الناس من حيث مضمونه أو من حيث شكله.. أما الذين رفضوا تجسيد شخصيات الخلفاء الراشدين وأمهات وآباء الأنبياء وأزواجهم فأعتقد أنهم لم يرفضوها في الأعم الأغلب – وأنا منهم - لأنهم يختلفون على مبدأ التمثيل أو التجسيد وإنما خشية أن يقصّر نص أو شكل فني أو جهد مخرج أو ميزانية منتج في رسم الكاركتر لأشخاص صنعهم الله تعالى على عينه وحمى بهم البذرة الأولى للوحي المنزل، أحبهم واصطفاهم وورثهم الكتاب وصنع بهم التاريخ وعلى رمزيتهم وهالتهم وهيبتهم تربت أجيال الأمة منذ ذلك الزمن (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا).. هذا ما خشيه الرافضون ؛ وهو بالفعل ما حدث في مسلسل عمر والذي قصّر في خدمة هذه الشخصية الفذة وفي تسليط الضوء عليها في مواضع : 1- فقد رأينا عمر – رضي الله عنه - في المسلسل رجلا وسيطا في الرجال لا يكاد يمتاز عنهم لا بجسم ولا بأثر، طيبا تسيطر عليه الحكمة والأناة واللطف وطول الصمت والفكر، ورأيناه يتفوق عليه كثيرون ممن حوله سواء في أهلية اتخاذ القرار أو في التفات الناس إليه والتفافهم حوله أو في دوره كرأس في الجاهلية.. مع أن العكس من ذلك هو الصحيح فقد كان عمر فذا وفظا في الناس، وكان جسيما حكيما عاقلا مستعليا مهابا جبارا لا يناهزه في كل ذلك من الرجال إلا قلة أبرزهم أبو جهل - عمرو بن هشام – ولهذا لم يكن عجيبا ولا غريبا أن يدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " أن يعز الله الإسلام بعمر أو بأبي جهل ".. لقد كان عمر صخابا قاسيا شديدا على من يكره بل وحتى على من يحب، وقد جمع كل ذلك قبل الإسلام ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولإيذاء للمسلمين.. حتى قال قائلهم: "يسلم حمار الخطاب قبل أن يسلم عمر ".. نعم كان الفرق كبيرا بين عمر الكافر الجاهلي العتل القاسي وبين عمر المسلم القوي أيضا.. حتى صار هذا الفرق مثلا يضرب لأثر الإسلام في تغيير النفوس وترويض القساة الجواظين.. 2- المعروض من المسلسل حتى الآن تناول أحداث السيرة بعمومها ما يخص منها عمر – رضي الله عنه - وما لا يخصه.. وبعض الأحداث لم يكن لعمر فيها دور ما أعطي الانطباع بأن الكاتب وقع في الإقحام والإطناب وأنه يبحث عن سعة لا يجدها في سيرة عمر.. فأغرق شخصية عمر في شخصيات أخرى لها تعلق بالسيرة النبوية (كأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمرو..) وكان على الكاتب أن يدور مع عمر قبل الإسلام وبعده، ولو فعل لوجد الكثير الذي يكفيه عما يعتبر حشوا وسردا محوره السيرة النبوية وليس السيرة العمرية.. صحيح أن داخل السيرة النبوية تدور السيرة العمرية وصحيح أن بين السيرتين تداخلا.. لكن هذا أيضا كان التحدي الأبرز للكاتب وقدرته على رسم السياق داخل السياق دون أن يغيب عن المحور الذي سمى المسلسل باسمه.. 3- دارت شخصية عمر في المسلسل حول مجموعة من الأحداث جوهرها مواجهات بين الإسلام وخصومه مع إيقاعات من العداوة والشد والجذب.. ضمن المعروف المعهود من أحداث السيرة.. وفي ذلك ما فيه من تساوق مع الذين ينظرون للتاريخ الإسلامي على أنه حالة من الصراع والدماء والمواجهات المستمرة التي لا تنتهي منها جولة حتى تحل أخرى على ذات النسق.. كنت أود أن أرى عمر - رضي الله عنه – في حالاته الإنسانية العادية ؛ في بيته ومع أولاده ووالده وزوجته ومع جيرانه، وأرى تصرفه في الرضى والغضب، وعواطفه وخلجاته، ونومه ويقظته وعسره ويسره – إضافة لقوته وهيبته التي انتقلت معه في الإسلام.. كان ينبغي أن يشمل كاركتر عمر – رضي الله عنه – أبعاد علاقته مع أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وكنت أتمنى لو أن الكاتب صدر من خلال الحوار الذي أداره لشخصية عمر رسالة التربية لأبنائنا ورسالة الحب لدعاة الكراهية المذهبية، ورسالة القوة والإصرار والحرية لثورات الربيع العربي، كنت أتمنى أن تصدر رسالة توعية وتجديد لدعاة الإسلام.. أرجو أن يتضمن الجزء المتبقي من المسلسل كل هذه الرسائل التي خلا منها تقريبا الجزء المعروض حتى الآن.. آخر القول: مع أننا نثمن ونشجع على الجرأة في تجسيد الشخصيات التاريخية المؤثرة التي تعتبر رموزا ومعاني للإسلام ذاته لكي تطرق السمع والبصر والفؤاد ؛ إلا أن هذه الجرأة يجب أن تمتزج بخوف على الصورة الذهنية الكبيرة المتخيلة لهم وأن تنضبط بإحساس بالمسؤولية خاصة إذا كان العمل الذي يتناول هذه الشخصيات أولا في مجاله ويرسم الصورة المرجعية لكل ما يأتي بعده.