13 نوفمبر 2025
تسجيلما إن تبدأ في سورة يوسف حتى تجد نفسك مسترسلاً في قراءتها، لتجد نفسك قد دخلت عالماً من المشاهد الإنسانية المتنوعة، وكأنما تشاهد فيلماً سينمائياً تجذبك المشاهد جميعها، لا تنتهي من مشهد حتى تجد نفسك متشوقاً للمشهد الذي يليه وهكذا حتى نهاية القصة، وكيف لا والله عز وجل أخبرنا في بداية السورة "نحن نقص عليك أحسن القصص"؟. قصة مليئة بالوجدانيات والمشاهد الإنسانية المتنوعة، ما بين حب وحنان، وشفقة واحسان، وظلم وحسد الإنسان، وهكذا حتى نهاية السورة. هي من السور القليلة جداً في القرآن الكريم التي لا تقرأ صفحات منها لتكملها في وقت آخر، كما يفعل كثيرون منا مع السور القرآنية، لاسيما الطويلة منها، لكنك مع سورة يوسف، تبدأ تقرؤها منذ البداية ولا تتركها حتى تنتهي منها. وسنحاول المرور سريعاً على بعض تلك المشاهد الإنسانية بالسورة. "فيكيدوا لك كيداً" واحد من المشاهد المثيرة والأولى في قصة يوسف – عليه السلام – مشهد كيد الإنسان لأخيه الإنسان، والذي بسببه تحولت حياة إنسان من حال إلى حال. وقبل الاسترسال بالمشهد، دعونا نتساءل عن الكيد، ما هو؟ يقول الجرجاني، صاحب كتاب أسرار البلاغة: "إرادةُ مضرَّة الغير خُفيَة، وهو من الخَلق: الحِيلة السيئة، ومن الله: التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخَلق". والإمام السيوطي يرى الكيد عبارة عن: "إرادة متضمّنة لاستتار ما يُرَاد عَمَّن يُرَاد بِه". فالكيد البشري إذن هدفه الإضرار بالغير بحيث يتم التخطيط له بشكل خفي. وحين أمر يعقوب ابنه يوسف - عليهما السلام - بألا يقص رؤيته على إخوته، فإنما خشية من كيدهم الذي لن ينتج عنه سوى التخسير، فقد علم ما في نفوسهم من مشاعر سلبية سابقة وحاضرة تجاه أخيهم الصغير يوسف والأصغر بنيامين، وهما من أم أخرى غير أم بقية أبناء يعقوب الكبار. خاف يعقوب - عليه السلام - من كيد أبنائه الكبار لأخيهم الصغير، وحاول بكل الطرق وبشكل غير مباشر ألا يتيح لهم فرصة للانفراد بيوسف، كي لا يتجسد كيدهم في شكل فعل غير محمود العواقب، ولكن باءت محاولاته بشكل غير ما هو مرغوب منه، وخاصة من بعد أن كثرت محاولات أبنائه الكبار ليوافق على خروج يوسف معهم في إحدى رحلاتهم، بدلاً من البقاء في البيت، ولكي يجد فرصة للانطلاق والترفيه عن نفسه معهم بالصيد والخروج إلى الصحراء، أو هكذا زينوا لأبيهم الأمر. بعد ذاك الإلحاح الشديد وافق، وفي نفسه مشاعر من الشك والريبة، بل كثير من التساؤلات الخفية بينه وبين نفسه، خلاصتها أن مكيدة ما أو أمرا قد تم تدبيره بليل، وقد حان وقت تنفيذه نهاراً جهاراً وإن لم يكن أمام ناظريه، لكن يعقوب - عليه السلام - وإن لم يرَ أمر السوء القادم لابنه يوسف بعد حين من الدهر قصير، فإنه لا شك رأى ببصيرته ذاك الأمر، لكنه أخفاه، فلعل وعسى يكون كل هذا الذي يختلج بنفسه نوعا من المشاعر السلبية أو وسوسة من الشيطان يشغله بها عن أمور الدعوة والإصلاح، لكن في مساء ذاك اليوم الذي خرج يوسف مع إخوته، صدقت مشاعره ووقع ما كان يأمل ألا يقع. "إن أبانا لفي ضلال مبين" الضلال عند اللغويين قد يكون بمعنى الخطأ أو النسيان أو الضياع أو الغياب أو الكفر، أو هو بشكل عام العدول عن الطريق المستقيم، وفي موضع حديثنا ها هنا عن وصف أبناء يعقوب سلوك أبيهم معهم ومع يوسف وأخيه بنيامين بالضلال، إنما هو إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، كما جاء في تاج العروس، وهو ما اعتبره الأبناء نوعا من العدول عن الخط المستقيم وعدم العدالة في مسألة توزيع المحبة الأبوية عليهم بشكل عادل، أو كما هم رأوا وفسروا سلوك الأب تجاههم من جهة، وتجاه أخويهم يوسف وبنيامين من جهة أخرى. هذا (الضلال) الذي زعم أبناء يعقوب أنهم رأوه في أبيهم، أو بتفسيرهم القاصر لسلوكه وطريقته في تفضيل الأخوين الصغيرين عليهم وهم كبار العائلة ومن يُعتمد عليهم في شؤون العائلة كلها، أدى بهم مع الوقت إلى ترك أبواب قلوبهم مفتوحة لكل المشاعر الإنسانية السلبية، وبالتالي كان المجال مناسباً لولوج أسوأ أمراض القلوب إليها وهو الحسد. هذا الوهم في تفسير مواقف الأب، أشعل غيرة نفخ فيها الشيطان دون شك، إلى أن وصل إلى حسد غير مبرر، بل وصل إلى شدة وعمق جعلهم يكيدون لأخيهم أسوأ درجات الكيد، والتي تكون نهايتها إزهاق روح بريئة، فصار الاتفاق على ذاك الجرم، الذي بدأ به قابيل منذ قديم الزمن. لكن رغم سوداوية المشهد بفعل ظلمة قلوبهم، يبزغ ضوء خافت من قلب أحدهم، كان له دوره المؤثر على تعديل الخطة في لحظاتها الأخيرة، وهو ما يفسر لنا أن الشر مهما تعمق وتعملق، فهناك دوماً ما يعرقل خط سيره ويبطئ من حركته، لأمر ما سيحدث في مستقبل قريب أم بعيد، وتلك العرقلة لا شك أنها جزء من الكيد الرباني الذي يختلف عن البشري، في أنه لا يحدث إلا لأجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل. "وأخاف أن يأكله الذئب" الأب المشفق على ولده من حسد قد تراكم في قلوب إخوته الكبار وبان على وجوههم، وفضحتهم ألسنتهم بشكل أدركه وشعر به الأب النبي الكريم، دفعه إلى أن يبرر لأبنائه عدة مرات سبب خشيته من مرافقة يوسف لإخوته الكبار إلى الصحراء، حتى وإن زعموا أنهم له حافظون. الأب بفطرته وحسه الأبوي، شعر أن الأمر ليس دعوة بريئة من إخوة كبار لأخيهم الصغير لمرافقتهم والاستمتاع بوقته معهم، بل هو أكبر من ذلك. فما بالهم وقد بدأ يتكرر طلبهم هذا الآن، وهم من ذي قبل غافلون عنه؟ بل لم يكن ليسأل أحدهم أباه أن يسمح ليوسف أو أخيه بمرافقتهم في إحدى رحلاتهم العديدة؟ فلابد أن هناك ما يتم تدبيره في الخفاء. قال لهم: "وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون"، استغربوا من هذا التبرير الذي من المؤكد أنه أضحكهم، على اعتبار أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية، كما جاء في الحديث الشريف الذي أوصى فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – بالجماعة: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقامُ فيهم الصلاةُ إلا قد استحوذ عليهمُ الشيطانُ. فعليكم بالجماعة فإنما يأْكلُ الذئبُ القاصية". أي إن الذئب لا يأكل من الغنم إلا الشاة القاصية أو البعيدة عن القطيع، ينفرد بها ويأكلها، لكنه يخشى مهاجمة القطيع لكثرة عدده ولوجود الرعاة حوله. لم يستطع الأب المشفق على صغيره والمدرك أن أمراً خفياً وجللاً ينتظر هذا الصغير، أن يقاوم رغبة أبنائه الكبار وإلحاحهم الشديد، فوافق على مضض، لتبدأ بعد تلك الموافقة، مشاهد القصة المثيرة، التي سوف نستكملها في مقال الأسبوع القادم بإذن الله. [email protected]