06 نوفمبر 2025
تسجيلأعتقد صادقاً بأن أخطر سؤال مطروح اليوم على ضمائر أحرار العالم وخاصة دول ما بعد الثورات العربية وما يعرف بالربيع العربي، هو السؤال الذي كرس له الكاتب الأمريكي (كريز هيدجز) هذه الأيام كتابا بعنوان (أمريكا رحلة الوداع) حلل فيه الخلل في رؤية الولايات المتحدة للعلاقات الدولية من خلال الحرب الأوكرانية الروسية أو المحاولات المتبادلة بين واشنطن وبيجين لعمليات اختراق كليهما لقواعد بيانات الثانية والمحطة تاريخية على الصعيد العالمي. ويكفي أن نقول إن الخزينة الفيدرالية الأمريكية تخشى أن لا تسدد الديون التي على الإدارة الأمريكية تسديدها في 15 يوليو القادم! وهذه الأسئلة المصيرية لم يطرحها أي مفكر عربي أو أحد من الخبراء أو المسؤولين العرب إلى اليوم والسبب أننا ضعنا بلا بوصلة في خضم الأحداث الجسيمة المتعاقبة والمؤامرات المختلفة التي تحاك ضد كل تغيير حضاري. ونحمد الله تعالى بفوز الرئيس أردوغان بعهدة إضافية حتى يفتتح قرنا ثانيا من قوة تركيا بعد وانقضاء مدة معاهدة لوزان المذلة (1923) واليوم أردوغان أمام تحديات الغاز والطاقة والذكاء الاصطناعي وتحديد حدود بلاده مع اليونان وقبرص وأوروبا عموما كما أننا أدركنا أن اليمين الغربي الأمريكي والأوروبي شرع منذ توليه السلطة جزئياً أو كلياً في عديد الدول النافذة يرتب "لسيستم "جديد (منظومة جديدة) من العلاقات الدولية لا تقوم على احترام سيادة الدول المستضعفة ولا على القانون الدولي، بل تمخضت دراسات السياسات لديهم فأنتجت مولوداً يسمى صفقة القرن وهو مولود مشوه لكنه سيفرض علينا بالقوة، غايته تصفية القضية الفلسطينية نهائياً بمؤامرة يعد لها في ورش اليمين الإسرائيلي لكن بأيد غير اسرائيلية ثم إعادة العرب بعد ربيعهم المجهض إلى بيت الطاعة العنصري الإمبريالي إما بحكم عسكر أو استبداد يلبسونه أقنعة، وهذا ما يميز المشهد العالمي اليوم: ربما استعداد لضرب إيران ومؤامرات اقتصادية وإستراتيجية ضد تركيا (وهذا ما عززته التدخلات المشينة في شؤون الانتخابات التركية الأخيرة) وعزل لكل (مشاغب) وهو في الحقيقة ما استخلصته دراسات المحافظين الجدد منذ غزو العراق ومنذ انهيار النظام النقدي والليبرالي الغربي سنة 2008 ثم منذ موجة الحريات التي أثارتها الشعوب العربية. هذا السؤال هو ما موقفنا بعد الهزات التي عاشتها مجتمعاتنا من النظام الاقتصادي والمالي العالمي الراهن الذي أصيب في مقتل منذ انهارت سنة 2008 مصارف ومؤسسات مالية أمريكية، أعقبتها إعلانات إفلاس لدول كاملة كما حدث لليونان ثم أعيد النظر في أركان ذلك النظام العالمي الجائر المنعوت بـ (بريتن وودس) وراجعت دول الغرب علاقاتها مع دول الجنوب ونحن منها، واتضح لبعض الحكومات، بعد اتفاق إيران مع (الخمسة زائد واحد) أن واشنطن لا تعبأ بمصالح حلفائها العرب ومن ثم وجب التفكير والتخطيط لانطلاق العرب من هذه الحقائق لإعادة النظر في علاقاتنا جميعا لا بالولايات المتحدة والغرب فحسب بل بالنظام العالمي الراهن بأسره. غريب كيف بفضل الصبر والإصرار على الحق واستشراف ذكي للمستقبل يبلغ المرء مبتغاه بتحقيق أمل كان بالأمس القريب يعتبر حلماً صعب المنال حين يعطيه الزمن الحق فيما استقرأه أو أنذر منه من كوارث ستحل بالعلاقات الدولية وتغير حال العالم، فيدرك الإنسان أن الطريق الصحيح هو طريق المعرفة والايمان والإرادة أي السير في اتجاه التاريخ حتى ولو كانت الأغلبية ضده. هذا بصراحة وبدون غرور شعوري هذه الأيام حين أشهد بداية انهيار الرأسمالية الغربية المتغولة حين تعلن الخزانة الأمريكية أنها ربما تعجز عن تسديد ديونها في أجلها (شهر يوليو 2023) لأنني بكل بساطة أعتقد ما كان يعتقده صديقي عالم الاقتصاد الأمريكي ليندن لاروش منذ نصف قرن، من أن العالم لن يتحمل أوزار الظلم الدولي المسلط على أمم الأرض من قبل الأقلية المستفيدة من نظام (بريتن وودس) المنتهي الصلاحية منذ استقرار العولمة وصعود القوى الجديدة. وسجلت هذه المواقف في المطارحات الفكرية بيني وبين الصديقين لاروش الأمريكي (الذي رحل عن عالمنا أخيراً) وجاك شوميناد المرشح الأسبق لرئاسة جمهورية فرنسا، بعد أن اشتركنا معاً في عشرات المؤتمرات والندوات الدولية في عواصم العالم بدءاً من مؤتمر واشنطن بفندق ماريوت عام 1984 ثم بندوة كدريتش بألمانيا في أكتوبر 2007، ثم إننا التقينا عديد المرات في بيت لاروش بألمانيا في ضواحي (فيزبادن) أو في مزرعته بولاية بنسيلفانيا ونشرت أحاديثي معه في الإبان. اكتشفت منذ ثلث قرن أن أول من أنذر الغرب بقرب انهيار النظام النقدي العالمي (بريتن وودس) المؤسس على المضاربات هو عالم الاقتصاد الأمريكي ليندن لاروش الذي عمل مستشاراً للرئيس ريجان، لأنه هو العدو التاريخي لليبرالية المتوحشة القائمة على المضاربات، وأن الاتحاد الأوروبي الحليف الطبيعي للولايات المتحدة هو ذاته دعا إلى إعادة النظر جذرياً في منظومة (بريتن وودس) الجائرة وإقرار نظام ليبرالي عالمي يخضع للأخلاق وتحكمه ضوابط الرقابة والمحاسبة ويعمل في كنف مصالح كل الأمم ولا يسخر حصرياً لتكريس هيمنة الغرب وحليفها الإسرائيلي بالقوة على مقدرات الشعوب الأخرى منادياً بالانضمام إلى صف التأسيس الاستعجالي لنظام عالمي جديد تماماً. ونحن كعرب لم نعالج هذا الملف الأساسي ونحن معنيون في مصيرنا بطبيعة الانخراط في النظام العالمي أو التعامل معه وعلى أي أساس؟ ولم نشاهد بعد عملاً حاسماً وملزماً للدول أو خطة دولية يدعى لسنها قادة العالم بأسرهم بمن فيهم زعماء الصين والهند والبرازيل وروسيا واليابان ونمور آسيا، ونأمل أن تنخرط في هذا العمل الكبير دول مجلس التعاون، لأنها تشكل مركز ثقل مالي واقتصادي وحضاري، وتعتبر قلب الإسلام النابض وستدعى الدول قريباً لهبة حضارية جديدة وإعلان موت الليبرالية الطاغية ونواميس السوق المتسيبة مما لا شك سينشأ عنه نمط جديد تماماً للعلاقات الدولية والقانون الدولي والأخلاق الدبلوماسية والتجارة العالمية، بعيداً جداً عن الهيمنة السياسية والسيطرة على مناطق النفوذ وتقاسم ثروات الأمم الأخرى تحت تعلات العولمة أو صفقة القرن وبمباركة المؤسسات الدولية التي تدير هذه المظالم وهي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وهي الأدوات الطيعة والأذرع الطويلة لنظام (بريتن وودس) المنهار على رؤوسنا جميعاً.