08 نوفمبر 2025

تسجيل

بعد مائة عام من الانحراف والتيه

01 ديسمبر 2011

قبل تسعين سنة من الآن تقدم وزير الخارجية البريطاني من مجلس النواب في بلده بطلب اعتماد اتفاقية لوزان التي بموجبها انسحبت الجيوش الغربية من هضبة الأناضول التركية.. فلما دخل قاعة النواب قاموا يقرقعون له بالنعال على الطاولات في حالة هياج واحتجاج على الاتفاقية وعلى توقف الحرب وتفويت فرصة إيقاع الهزيمة النهائية والمبرمة على " الإسلام " الذي استمر يقاتلهم ثلاثة عشر قرنا من الزمان.. لكن الرجل – الوزير - صمد أمام الإهانات التي تعرض لها وانتظر أن هدأ الحاضرون ينتظرون ما سيقول لهم.. فقام وقال عشر كلمات " عدا ونقدا " انقلبوا بعدها يصفقون له ويحمدون اتفاقيته ثم أقروها.. قال لهم كورزون " لقد قضينا على تركيا بقضائنا على أمرين اثنين: الخلافة والإسلام.. ومنذ ذلك اليوم تصادمت فكرتان ومنهاجان, أحدهما يصر على إلغاء الخلافة وإبعاد الإسلام مستمدا ثقته وقوته من بريطانيا وحواليها.. وتجسده نظم رسمية وتوابعها من أحزاب وسياسات ومؤسسات ومناهج وبرامج وإعلام وتعليم وأشخاص وميزانيات.. هذا الفريق كان في أغلب الأحيان مبادرا باستهداف الفريق الآخر الذي ظل يسعى في غير كلل ولا ملل لإعادة الخلافة والنهوض من جديد وتحرير الأوطان وتعبئة الوطنية بالمعاني الحقيقية للاستقلال بإمكانات قليلة وجهود فردية ومتفرقة في أغلب الأحيان.. وانضوت تحت لواء هذا الفريق جماعات وأحزاب ومعارضات سياسية وفكرية بعضها نحا إلى العنف ولكن الخط العام الذي تصدرته جماعة " الإخوان المسلمون " وفروعها ومن يدور في مداها نحا إلى الوسطية.. لب هذا الفريق هم " الإخوان المسلمون " باسمهم مباشرة أو بأسماء ولافتات فرعية كحماس والنهضة والفضيلة والعدالة والتنمية.. الفريق الأول الذين صادموا الإسلاميين كتيار سياسي ما لبث أن وقع في خطيئتين أججتا المشاعر وجعلت غالبية الرأي العام ضده الخطيئة الأولى: الانتقال من استهداف الإسلاميين كتيار سياسي إلى استهداف الإسلام ذاته كشريعة وعقيدة تحت ذرائع: التقدمية، ومحاربة الرجعية، واحترام الآخر، وسياسة تجفيف المنابع.. حتى صار هذا الفريق في مصادمة حقيقية مع الأمة والشعوب والرأي العام والتاريخ والدين والثقافة الإسلامية، والخطيئة الثانية: الغرق في عداوة شاملة ضد الإسلاميين لا تبقي للصلح موضعا وفي هذا الإطار اتجهت أقلام للإشاعة عليهم وتخريب سمعتهم كما اتجهت أجهزة كثيرة لاستئصالهم.. ما أدى إلى فرز حاد داخل المجتمعات على قاعدة المع والضد.. ولا شك أن البعض داروا حول هذا الفريق رغبة ورهبة وأن منهم من كان مضللا (بكسر اللام) ومنهم من كان مضللا (بفتح اللام).. وانتهى الأمر إلى نظم هي في نظر شعوبها مستبدة على المستوى الداخلي وعميلة على مستوى العلاقات الخارجية ومن حولهم تدور أحزاب وتيارات وأشخاص.. وإلى إسلاميين ينتمون للأمة وعقيدتها وهمومها.. من لم يتقبلهم بالولاء عن قناعة وجد قاسمه المشترك معهم باعتبارهم الأقرب لمشاعره والأكثر تعبيرا عن طموحاته الوطنية والدينية.. الجديد اليوم هو أن الشعوب تحركت وثارت وصارت لها كلمة تقولها وصار أن يخرج عشرة في ميدان التحرير بمصر أو في ماسبيرو أو في أمثالها من ساحات الدول تستحق أن يخرج رئيس الوزراء ببيان وأن يحسب لهم ألف حساب.. ذلك ألقى على الواقع السياسي والفكري في منطقتنا خمس حقائق لا بد من رصدها وفهمها بموضوعية عالية.. الحقيقة الأولى: أن فوز الإسلاميين وصعود نجمهم في أكثر من بلد هو امتداد لإنجازاتهم وثقة الناس بهم وهو حصيلة عشرات السنين من الصبر والحكمة في مواجهة الاستبداد والإقصاء، وهو حصيلة ما هم عليه من حب لأوطانهم وشعوبهم ومن تضحياتهم في سبيل كرامتها.. ومن فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان.. المثال والدليل.. وليس صحيحا أن الشعوب هربت من جمر النظم إلى نار الإسلاميين ؛ ففي هذه الفكرة من اتهام لوعي الشعوب وإصرار على دس الرأس في الرمال وإنكار الحقائق ما فيها.. والسؤال لماذا يتوجه الناس إلى التيارات الإسلامية ولا يتوجهون إلى الليبرالية التي صوتها أعلى ولهجتها أحد من الإسلاميين؟ الحقيقة الثانية: أن اختيار الشعوب للتيار الإسلامي الوسطي وبالذات الذي يمثله " الإخوان المسلمون " وأن محاولات الخصوم الاتكاء على تصرفات ومقولات بعض الإسلاميين المتشددين.. كل ذلك يؤكد أن الوسطية في الفكر والفتوى والسلوك هي الرهان الصائب والخيار الأمثل, لا من قبيل البراجماتية أو اللفلفة والضحك على الذقون ؛ ولكن لأن الإسلام هو كذلك وهو دين الوسطية، ولأن التشدد لا سند له في الدين قبل أن يكون لا منطق له في المصلحة.. ثم لأن كل ما يعتمد عليه أولئك المتشددون من نصوص ومقاربات له تأويل وفيه وجهة نظر هي أقرب لروح ومفهوم وضوابط وواقع النص.. الحقيقة الثالثة: لقد أبرزت هزيمة خصوم الإسلاميين أن كل محاولاتهم لتشويه صورة الإسلاميين وكل ما بذلوه في ذلك من موازنات وما قدموه من إغراءات بها، كلها باءت بالفشل، وأن شعوبنا أوعى من أن يستغفلها هؤلاء، كما أثبتت أنهم لا يثبتون في النزال وأن المعركة معهم إنما هي من جولة واحدة ومنازلة سريعة حتى ينفض جمعهم وتدول دولتهم ويبوؤوا بالخيبة والخسران.. ومن شاء فلينظر لميراث ابن علي وحسني مبارك والقذافي ولينظر قبل ذلك لميراث مائة عام لأتاتورك وأتباعه.. عشرات السنين من التوجيه الواحد والإطار الواحد والرأي الواحد ؛ ثم ماذا؟ لقد تلاشوا وانمحوا وصاروا أثرا بعد عين، وصار أتباعهم يبحثون هنا وهناك عن كلمة يقولونها أو مهرب يلجأون إليه أو حزب يغطي سوءاتهم.. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ). الحقيقة الرابعة: أن الديمقراطية مع ما فيها من معاني مرجعية الشعب لنفسه على حساب مرجعية حكم الله تعالى وشريعته السمحة هي وبالنظر لعجز خصوم الإسلاميين عن المنافسة بها إذا تم إجراء قليل من تدوير زواياها وتنزيلها على خصوصية حال الأمة الإسلامية يمكن اعتمادها كرافعة لتحقيق العدالة وإحداث التغيير المطلوب وتصلح للارتكاز عليها من أجل الوصول إلى الحكم بأقل التكاليف بديلا عن الإحجام عن المشاركة وبديلا عن التورط في العنف الذي يشتت الأنصار ويخيف من الإسلام.. في هذا السياق أيضا ليس على الإسلاميين أن يجتهدوا كثيرا في استنكار الديمقراطية " المقننة "! الحقيقة الخامسة: أن خصوم الإسلاميين راهنوا كثيرا على إفساد ذات بينهم والاستثمار في خلافاتهم وقد برز ذلك جليا في مصر على الخصوص عندما تبنى فلول الحزب الحاكم جماعات صوفية وأزهريين وإعلاميين إسلاميين.. لكن مسارعة الإسلاميين لتشكيل هيئة تنسيق عليا لتيارهم شملت أزهريين وإخوان وسلفيين وتبليغ.. هذه المبادرة أحبطت كيدا كثيرا ومكرا كبارا.. وأعطت دليلا جديا على عظم القواعد المشتركة بينهم، وعلى خطورة وخطأية التكلس على المشاكلات والمناكفات والتنقل بين التفاصيل الكثيرة التي لا تنتهي والتي لا يمكن الاجتماع والإجماع عليها.. ذلك يجب أن يتنبه إليه الإسلاميون في كل مكان وأن يعيدوا النظر في علاقاتهم على ضوء هذه التجربة وقبل أن تفاجئهم التغيرات ومقتضياتها.. آخر القول: فاز الإسلاميون وهذا زمانهم والمأمول أنهم سينجحون في إحداث التغيير اللازم وأنهم سيصححون مسيرة مائة سنة من الانحراف والتيه.. وربما في يوم قريب سنحتفل بالمرحلة الثانية من الاستقلال الوطني على المستويين الداخلي والخارجي..